خلال سنوات العدوان كان الحديث يتجدد في كل مناسبة عن ضرورة المضيّ في استقلال القرار الوطني اليمني تجاه القضايا الداخلية والخارجية، وفي مختلف الظروف سلماً أو حرباً، وأن هذه الاستقلال المنتظر والغائب منذ عقود بحاجة إلى إرادة صلبة وقوية من أجل المضيّ في تحقيق السيادة الوطنية الكاملة.
نعم الحديث عن السيادة الغذائية يختلف كثيراً عن الأمن الغذائي، فالمفهوم الأول يفرض نفسه لكونه الحل الشامل للأزمات الغذائية، فيما الأمن الغذائي كمفهوم يعني أن استيراد الغذاء يمثل حلاً مناسب لمشاكل الغذاء.
والسيادة على الغذاء “بمفهومه الواسع” من المهام الرئيسية للدولة، والذي يتضمّن تحمّل أعباء توفير احتياجات المواطنين ومواجهة الاختلالات الغذائية الناتجة عن عوامل داخلية وأخرى خارجية، ولنا في الازمات الغذائية التي شهدها العالم (كورونا – الأزمة الأوكرانية) خير دليل على عدم قدرة البلدان النامية في التعامل مع ما يسمى “بالنظام الغذائي” الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكانت شواهد ذلك النظام تشير إلى مزيد من الإهمال للزراعة في اليمن والمنطقة العربية مقابل مزيد من الواردات الغذائية الغربية ولا سيما الحبوب.
وهو ما انعكس سلباً على واقع الأمن الغذائي وعزز من مسار التبعية للعالم الغربي، خصوصاً بعد أن تفاقمت ظاهرة التبادل غير المتكافئ والقائم على أكذوبة “التقسيم الدولي للعمل” وهو تقسيم “حسب عدد من الخبراء” ظالم ولا يهتم بمصلحة الدول النامية.
السيادة الوطنية
ووفقاً لهذا الطرح، فإن تحقيق السيادة الفعلية بحاجة إلى مجموعة من الركائز للمضيّ في هذا القرار الصعب، ولهذا يدرك القائمون على صناعة القرار في البلد أن السيادة على الغذاء من ركائز السيادة الوطنية المهمة وعنصراً أساسياً لتقويتها وتعزيزها، إلى جانب عدد من الركائز الأساسية الأخرى.
المعطيات السابقة فرضت نفسها على القائمين في هذا القطاع الحيوي، كون القرار الوطني المستقل لن يتحقق فقط من خلال تحقيق الأمن الغذائي “رغم أهميته” ولأن مفهوم الأمن الغذائي يستهدف توفير المواد الأساسية خلال فترة زمنية معينة قد تصل إلى ستة أشهر، فيما الاستقلال بمفهومه الحقيقي للدولة بحاجة إلى أكثر من مجرد توفير الأغذية للسكان، فهو بحاجة إلى أن يكون ذلك الغذاء نتاج منظومة متكاملة تبدأ برؤية استراتيجية لدى الساسة وتمرّ بمراحل الإعداد ومن ثم تطبيق تلك الرؤية على أرض الواقع.
ويشير عدد من الخبراء، أن هذا الواقع ساهم في وضع الاستراتيجية والخطط الهادفة للوصول إلى تحقيق السيادة الوطنية بعيداً عن الوصاية الخارجية التي عبثت خلال العقود الماضية بكل التوجهات المخلصة داخل البلد، وبناء على ذلك الإدراك كان لا بد من المضيّ والشروع في التنفيذ من خلال برامج طموحة ومكثّفة يُخصص لها مختلف الإمكانيات المتاحة في سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي على الغذاء، والذي لن يتأتّى إلا من خلال النهوض بالقطاع الزراعي.
توجيهات صُنّاع القرار الوطني
في تدشينه موسم التشجير للعام 1444هـ بالعاصمة صنعاء, “أكد فخامة المشير الركن الرئيس مهدي المشاط، اهتمام المجلس السياسي الأعلى بالقطاع الزراعي، ودعمه لكل ما من شأنه التوسع في زراعة الأشجار المثمرة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من المحاصيل والمنتجات الزراعية ذات القيمة والفائدة.
وشدد على ضرورة العمل على استعادة النشاط الزراعي في مختلف محافظات الجمهورية في إطار الدولة للاكتفاء الذاتي بشكل تدريجي من المنتجات الزراعية، وخاصة من المحاصيل النقدية التي يُعول عليها الكثير في رفد الاقتصاد الوطني والخزينة العامة”.
وفي لقاء سابق لفخامة الرئيس برئيس اللجنة الزراعية السمكية العليا , “أكد الرئيس المشاط أهمية تشجيع المواطنين على زراعة القمح، خاصة في القعيان المشهورة ومنها محافظات الجوف وقاع البون بعمران وقاع جهران بذمار وغيرها من المناطق التي تشتهر بزراعة القمح، لتحقيق الأمن الغذائي.
وأكد أهمية اضطلاع اللجنة بدورها في إنشاء السدود والحواجز المائية وإعادة تأهيل السدود والكرفانات التي تأثر بفعل عامل الزمن أو قصف العدوان.
وحث على تشجيع الاستثمار في القطاع الزراعي ودعم المزارعين على التوسع في زراعة محاصيل الحبوب وعمل دراسات لإنشاء شركات مساهمة، بالإضافة إلى عمل تسهيلات للتجار ومنح مزايا لمدخلات القطاع الزراعي، من البذور، والطاقة الشمسية وغيرها.
وشدد على ضرورة الاهتمام بالجودة في المجال الزراعي، وتعزيز دور الإرشاد وبرامج التوعوية في أوساط المزارعين، بكيفية استخدام آلية الري الحديث للحد من استنزاف المياه.
وحث الرئيس المشاط على إعطاء التسويق الزراعي للمنتجات المحلية أولوية واهتمام بدرجة أولى”.
بدوره أكد رئيس الوزراء الدكتورعبد العزيز بن حبتورفي مناسبة أخرى ، أن “الحفاظ على الجينات الزراعية اليمنية والعمليات البحثية لتطوير مسارات الزراعة في الأراضي اليمنية مسئولية وطنية وعمل استراتيجي هام للحاضر والمستقبل”.
استعادة مكانة القطاع الزراعي
في الحالة اليمنية والتي أتت استجابة لتوجيهات قائد الثورة حفظه الله للاتجاه نحو الاستثمار في القطاع الزراعي, كان القرار أنه لا بد من الخروج من هذه الدوامة لا سيما وأن حجم المستورد من الخارج من الغذاء قارب 80% وبكلفة تبلغ مئات الملايين من الدولارات وهي في ارتفاع مستمر من عام إلى أخر.
وتشير الإحصائيات المتوفرة أن فاتورة الاستيراد في اليمن تتضمن نحو 896 صنفاً زراعياً، فيما يبلغ الاستهلاك حوالي 3،8 مليون طن أنتج منها محلياً حوالي مائة ألف طن بما نسبته 2.8%، هذا الخلل الواضح والمتراكم منذ عقود سابقة ساهم في تبني مفاهيم جديدة تتعامل من خلال رؤية بديلة تقوم على حتمية الإنتاج المحلي للحبوب والأغذية الاستراتيجية.
يُضاف إلى ما سبق، أن الخصوصية اليمنية فرضت نفسها خاصة خلال سنوات العدوان، من خلال تبنّي قرار يعمل على استعادة القطاع الزراعي مكانته ودوره الريادي في الاقتصاد، كونه من القطاعات الرئيسية في الاقتصاد اليمني، وعلى اعتباره القطاع الثاني إنتاجياً بعد قطاع النفط ولكونه يسهم بمعدل متوسط يبلغ حوالي 14% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب أن من ينشط فيه من القوى العاملة يقدر بحوالي 54%من إجمالي القوى العاملة في البلد، ويسهم القطاع في الحد من الهجرة الداخلية إلى المدن حيث أن70% من إجمالي السكان يعيشون في المناطق الريفية.
حالة وعي
ويشير عدد من المتابعين للشأن الداخلي اليمني “خلال السنوات القليلة الماضية”، إن القرارات في الجانب الاقتصادي والزراعي تؤكد أن هناك حالة رفض واعية ومحاولة جادة لوقف سياسات الاستعمار الزراعية كمرحلة أولى وفي المرحلة التالية تبنّي استراتيجيات للنهوض بالقطاع الزراعي من خلال صياغة جملة من المبادئ العامة يمكن لها أن تؤسس لمشروع زراعي وطني حقيقي.
هذا المشروع وحسب القائمين على القطاع الزراعي، يرتكز على مبدأ أولوية المزارع كفاعل أول في عملية الإنتاج، من خلال إشراكه المزارعين في تحديد السياسات الزراعية في مختلف المراحل للوصول في المحصلة النهائية إلى توفير الغذاء المناسب للشعب بعيداً عن الاستغلال, هذا من ناحية ,ومن الناحية الأخرى الحفاظ على استقلال القرار اليمني.
فالعدوان ظل كثيرا يراهن على الورقة الاقتصادية لإذلال الشعب وتركيعه ، والقطاع الزراعي في مقدمة الجبهات الداخلية التي تم استهدافها ،لكن هذا القطاع الحيوي سيكون عند مستوى المسئولية في الحرب الاقتصادية وسيكون أكثرعزيمة وإصرارا ً على كسر تلك المؤامرات والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي.
وكلما أمعن العدوان في أساليبه واستهدافه لتدمير القطاع الزراعي – نظرا لما يمثل هذا القطاع من دور هام في تماسك الجبهة الداخلية رغم الاستهداف والتدمير للبنية التحتية- كلما زاد هذا القطاع ثباتاً وصموداً لأن الشعب اليمني استطاع بفضل الله وقوته ثم بفضل قيادته الثورية الحكيمة وتضحيات أبطال الجيش في مختلف الجبهات والميادين ,أن يُفشل كل رهانات ومخططات العدوان الذي راهن على كسر صموده وحريته وكرامته.
تأسيس وتقييم
وفي هذا السياق كانت هناك قرارات مهمة في هذا المسار الطويل وفي مقدمتها: إنشاء المؤسسة العامة لإنتاج وتنمية الحبوب، بهدف تحقيق السيادة الغذائية وتحسين نسب الاكتفاء الذاتي وزيادة إنتاج الحبوب بصورة تدريجية لا سيما القمح، وتُعنى المؤسسة بتخفيض تكاليف الإنتاج وحماية إنتاج محاصيل الحبوب المحلية، إلى جانب تشجيع المزارعين ودعمهم في إدخال التقنيات الزراعية الحديثة، وتعمل المؤسسة على تحسين التسويق وتطوير السعة التخزينية للمحاصيل وعمل مخزون استراتيجي من الحبوب.
بعد تلك القرارات، كان من الضروري تقييم الاستراتيجيات القائمة ولكن بما يراعي ظروف العدوان على البلد والتي يعلمها القاصي والداني، وحسب القائمين على إدارة المسار الاقتصادي عموماً والزراعي على وجه الخصوص، فإن النتائج كشفت عن تسجيل نجاحات مُرضِية، وبأن القطاع الزراعي في الطريق الصحيح نحو تحقيق الأهداف المسطّرة وفي مقدمتها، الاكتفاء الذاتي والسيادة على غذائنا.
شروع في التنفيذ
يُضاف إلى ما سبق، شَرعَ المعنيون بتنفيذ خطوات مهمة في مسار تطوير القطاع الزراعي منها:
– التوسّع في زراعة القمح في عدد من المحافظات، خاصة محافظة الجوف كونها من المحافظات الواعدة من خلال زراعة أكثر من ستة آلاف هكتار وبواقع إنتاج يصل إلى 5-6 أطنان من محصول القمح لكل هكتار, وتم مؤخرا ادخال تقنية الري المحوري بشكل كبير -ولأول مرة – بمحافظة الجوف وفي اليمن عامة بهذا الحجم، حيث يغطي المحوري الواحد خمسين هكتار
– مشاركة المؤسسات الزراعية الحكومية بصورة مباشرة في إدارة عدد من مزارع الحبوب، إلى جانب دعم مزارع المواطنين والجمعيات التعاونية نظرا لدورها في النهوض بالقطاع الزراعي وتنوع محاصيل المنتجات وتقنين عمليات التسويق الخاضعة للعرض والطلب حفاظاً على المنتج الوطني , من خلال توفير المعدات المختلفة (كمباينات وحصادات) للمزارعين.
– تبنّي الحكومة من خلال منتدى الاستثمار في دورته الأخيرة مناقشة الفرص الواعدة والمزايا الاستثمارية المتاحة في القطاع الزراعي وسبل التغلّب على التحديات التي تواجه الاستثمار في هذا المجال بالشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص.
– التوسّع الحكومي في منظومة “الزراعة التعاقدية” على اعتبارها بديل ونمط مختلف من الاستثمار يواكب متغيرات المناخ والزيادة السكانية.
– العمل على تسجيل وتوثيق البصمة الوراثية للبُن اليمني في قائمة التراث العالمي بمنظمة اليونسكو، للحفاظ على الأصناف المهمة “44صنفاً تجارياً” من الاعتداء ونسبها إلى غير موطنها الأصلي.
– تشجيع وحماية الإنتاج الزراعي المحلي من خلال قرار منع استيراد البُن والزبيب والثوم والتفاح.
– تشجيع المزارعين على زراعة وتجربة محاصيل جديدة على البيئة الزراعية اليمنية، كزراعة نبات فول الصويا في مديرية المراوعة بمحافظة الحديدة.
– تبنّي الدراسات البحثية بشأن جدوى مشروع زراعة القمح في المناطق المختلفة كونه محصول قابل للتكيّف في أجواء مختلفة، خاصة في المحافظات الشرقية ” الجوف – مأرب – شبوة – حضرموت” لما تمتلكه من مزايا المساحات الواسعة ووفرة المياه الجوفية.
عدوان .. وخسائر
وعندما نتحدث عن النتائج الإيجابية المعلنة لا بد من التوقف أمام ما أحدثه العدوان من تدمير للقطاع الزراعي طوال ثمانية أعوام، حيث تشير الأرقام إلى أن “الخسائر المباشرة وغير المباشرة بسبب العدوان والحصار تجاوزت 147 مليار و126مليون دولار منها 8 مليارات و724 مليون دولار خسائر مباشرة ، و138 مليار و402 مليون دولار خسائر غير مباشرة ” وفق ما جاء على لسان وزير الزراعة والري المهندس عبدالملك الثور .
وتضمّنت الأضرار المباشرة: المباني والمنشآت المائية والأسواق الزراعية والمستودعات والمخازن ومراكز الصادرات الزراعية والمشاتل الإنتاجية إلى جانب الأضرار الكبيرة في ما يخص الثروة الحيوانية والسمكية، فيما تمحورت الأضرار غير المباشرة: في انخفاض الإنتاج الزراعي النباتي والمشاتل الإنتاجية، وهو ما انعكس سلباً على الأسواق الزراعية ومنتجاتها المختلفة والمخصصة للاستهلاك المحلي أو المُعدّة للتصدير إلى خارج البلد.
وبحسب ما نُشر مؤخراً عن منظمتيّ “عين الإنسانية” و”المركز القانوني” فإن العدوان دمر “6319 – 11350″ حقلاً زراعياً، و”373 – 466” مزرعة دجاج ومواشي.
ولم تقتصر هذه الخسائر والأضرار التي لحقت بالقطاع الزراعي في المناطق الحرة التي تسيطر عليها حكومة الإنقاذ في صنعاء فحسب، فالصراع المستمر بين الأطراف الداخلية المساندة والمؤيدة لتحالف العدوان في مناطق سيطرتها تسبّب في إضعاف المؤسسات المعنية بالقطاع الزراعي هناك، لتبقى عاجزة عن تقديم أي معالجات في المجال الزراعي، فضلا عن عجزها التام في مواجهة كوارث السيول التي دمرت العشرات من المزارع ، وعجزها عن إيقاف الزحف العمراني على المساحات الزراعية، وسيطرة قوى النفوذ والصراع على أراضي زراعية تتبع فروع وزارة الزراعة في لحج والضالع وأبين، حسب تقارير تلك الفروع خلال الأعوام الماضية.
ختاماً
يبقى القول، أن الوصول إلى تحقيق الأهداف الاقتصادية والزراعية المستهدفة على المدى المتوسط والطويل، بحاجة إلى تجاوز مختلف العوائق كونها تقف حجر عثرة أمام نهضة القطاع، والضرورة تُحتّم على القائمين في الحكومة البحث في أسباب الإخفاق في التجارب المحلية السابقة للحيلولة دون تكرارها، إلى جانب الاستعانة بالخبرات الخارجية والاستفادة من تجاربهم في سبيل تحقيق النجاح والنهوض بالاقتصاد الوطني والقطاع الزراعي