[11/ يوليو/2020]
صنعاء – سبأ:تحقيق/ أنس القاضي
يقبع “المهمشون” أسفل التراتبية الاجتماعية اليمنية ، حيث يعيشون في هامش الحياة الاجتماعية الاقتصادية التربوية التعليمية السياسية الثقافية، ضمن تجمعات سكانية مُغلقة داخل المدن وفي أطرافها وأجزاء من القرى والسواحل ، تسمى “المحوى”، ويشكلون الحلقة الأشد ضعفاً من بين الطبقات والفئات الكادحة والمحرومة في المجتمع اليمني.
جاء خطاب السيد قائد الثورة عبد الملك بدر الدين الحوثي الذي حث على دمج الفقراء المحرومون “فئة المهمشين”، الذي اطلق عليهم إكراماً تسمية ” أحفاد بلال” تعبيراً صادقاً عن الأهداف التقدمية العادلة لثورة 21 سبتمبر 2014م.
لما كانت أزمنة الاستبداد والاستغلال قد وسعت من الطبقة الاجتماعية المُفقرة والمُستضعفة في أوساط الشعب اليمني حتى أمسى المستضعفون هم غالبية الشعب وتآكلت الطبقة الوسطى و”تبلترت”، فإن المهمشين هم الحلقة الأضعف بين المستضعفين.
ولد الوضع الاجتماعي المزري للمهمشين في ظل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الاقطاعية في العهد العباسي في اليمن ، واستمر الوضع كما هو عليه حتى ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م، ووصولاً إلى الوقت الراهن وفي ظل تسيد التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية مازال من يُسمون ” الأخدام” في هامش الحياة اليمنية محرومون ومستضعفون.
إمكانيات كسر مسار الدوران في حلقة التهميش التي دامت لقرون هي اليوم أكبر ، ففي ظل التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية يُمكن تجاوز نظام الطوائف الاجتماعية الذي يدوم عبر وراثة الأبناء لواقع وضع آبائهم وأجدادهم ومهنهم ومستواهم الاجتماعي ، وبالنسبة للمهمشين كوضع خاص في إطار الطبقة الفقيرة فلا يُمكنهم كسر هذه النمط الراسخ بدون تدخل الدولة الفعال لانتشال المهمشين من واقع التخلف الانتاجي السلوكي المعرفي والارتقاء بهم عبر رؤية استراتيجية وطنية شاملة.
إن الأساس الفلسفي لدمج فئة المهمشين هي القناعة الراسخة بكونهم بشر لا يقلون قيمة عن بقية فئات المجتمع اليمني وبكون مسألة اندماجهم وحل مشكلتهم حقاً لهم وقضية وطنية هامة ، وهذا الأساس الفلسفي له أصول في العقيدة الاسلامية التي تؤكد على المساواة وفي النصوص الدستورية والقانونية (النافذة نظرياً) التي تقوم على المواطنة ، إلا أن أي من هذه القيم الإسلامية والثوابت الدستورية ظلت حبيسة الأوراق والنقاشات الفقهية القانونية ، ولم تتجسد في الواقع الاجتماعي الملموس.
تطوير البُنية الاجتماعية الاقتصادية هو الأساس المادي لدمج هذه الفئة بالمجتمع ورفع مستوى معيشتها ووعيها ، هذه الاجراءات تسبق عملية تثقيفهم وتوعيتهم وتعليمهم ، فقد توارثوا نمط من الحياة أصبح له طابع الرسوخ في حياتهم لا يُمكن كسره بمجرد توعيتهم وتغيير أفكارهم بل بتغيير واقعهم أولا ومن ثم توعيتهم أو بتلاقي المساران معاً ، وعملية دمجهم ليست بالأمر المستحيل ، فهناك حالات فردية لشخصيات منهم اندمجت في المجتمع وتقبلها المجتمع كأمر واقع ومثلت نماذج ناجحة ، وهناك مبادرات حكومية جزئية نجحت نسبياً ، وهناك تجربة اليمن الديمقراطية – سابقا كانت ممتازة حتى قضت على مكتسباتها حرب صيف 1994م.
وتجربة صعدة المستمرة مع المهمشين “أحفاد بلال” متميزة وبحاجة إلى بحث أوسع، تتطور هذه التجربة في ظل الحركة الجهادية ومن منطق “الاخوة الايمانية”.
إن هذه التجارب وإن كانت محدودة التأثير وجزئية في معالجتها ، فهي تعطينا مؤشر هام على إمكانية دمج هذه الفئة الاجتماعية في المجتمع اليمني الجديد التي تنشده ثورة 21 سبتمبر 2014م ، كما دعت إليه ثورة 26 سبتمبر في هدفها “ازالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات وإنشاء مجتمع تعاوني ديمقراطي عادل يستمد انظمته من روح الدين الاسلامي الحنيف”، والعدالة والحرية من واقع الاستعباد هي أسمى ما دعت إليه الرسالة الإسلامية.
تاريخ ظهور هذه الفئة الاجتماعية:
لم تكن فئة ” الأخدام” موجودة في المجتمع اليمني بالمفهوم المعاصر اثناء انتشار الإسلام ، بل ظهرت في القرن التاسع في الدولة الزيادية في زبيد (حكمت في الفترة 203 – 409 هـ/ 819 – 1019 م) وكانوا ضمن الحرس الخاص للحاكم ، لاحقاً جاءت الدولة النجاحية الذي أسسها الأمير نجاح مولى مرجان الحبشي، حاجب أمير بني زياد سنة 412هـ/1021م ففي هذه الدولة كان ذوي الأصول الأفريقية هم الحكام ، وبعد سقوط الدولة النجاحية على يد علي بن مهدي الذي وحد العرب اليمنيين ضد المُضطهدين الاثيوبيين وخلال هذه الفترة ظهر مفهوم المهمشين كفئة اجتماعية في المجتمع اليمني تشكلت من بقايا المحتلين الأحباش “النجاحيين”.
وهناك فرضيات بأن من يعرفون اليوم بالمهمشين هم من سلالة الأسرى الأحباش الذين أسرهم سيف بن ذي يزن سنة 558م فأصبحوا شبه عبيد يقومون بالأعمال الذي كان المجتمع آنذاك ينظر إليها بأنها أعمال محتقرة.
فيما تركز الفرضية الثانية على تجارة العبيد وخاصة في الشريط الساحلي ، حيث يذهب أصحاب هذه الفرضيات إلى القول بان من كانوا يسمون سابقاً بالموالي ويقومون بذات الاعمال ” المتحقرة” هم من تحولوا اليوم إلى ما يُسمى بالمهمشين.
فيما لعبت الهجرة من القرن الافريقي إلى اليمن مصدر أخر لظهور هذه الفئة الاجتماعية التي تتميز بملامح العرق “الزنجي” الأفريقي كفرضية ثالثة ، فكل هذه الفرضيات هي في حقيقة الأمر مصادر وجود هذه الفئة الاجتماعية في اليمن، في تفاعلها الجدلي.
وضعهم الاجتماعي وسماتهم الخاصة
تتكون فئة “المهمشين” من الأشخاص ذوي البشرة السوداء من أصول أفريقية ، الذين يتواجدون بشكل أقل في المناطق القبلية وبشكل أكبر في محيط المدن وبشكل خاص المناطق الساحلية، ويقومون بأعمال النظافة العامة في الشوارع والمكاتب الحكومية والقطاع الخاص، وأعمال حرة والتسول.
يعيش المهمشون عادةً في أطراف المدن في بيوت تتكون من الصفيح والكراتين والإطارات والأحجار الصغيرة، ونادراً مخلفات الخرسانة والحجارة، معرضون لطردهم وإحراق منازلهم من قبل من يملكون الأراض كأفراد أو جهات رسمية، وقد ظلت هذه الفئة منذ ظهورها تاريخياً على هامش الحياة العامة في المجتمع اليمني في مختلف المناطق التي تقطنها، تعيش عزلة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية عن باقي فئات المجتمع، يُنظر إليهم بدونية، وبسبب هذا الانغلاق نسجت عنهم الكثير من التصورات الاسطورية والخرافات وتشكلت صورة نمطية ظالمة تجاههم.
النظام المراتبي في المجتمع اليمني الذي يمر في مرحلة انتقالية بين القديم والحديث، فهو مختلط يرتكز على أساس مفهوم التفاضل الاجتماعي والعرقي والسياسي والديني والاقتصادي والحزبي والجهوي، والذي تتحدد بموجبه الاختلافات في المراكز والأدوار وممارسة النشاط الاقتصادي بين الافراد الذين ينتمون إلى فئات اجتماعية متمايزة تحتل كل منها مكانة اجتماعية معينة ومحددة بحيث تفرض على كل فئة منها سلوكاً معيناً، وهذه التراتبية من بقايا التقسيم الطبقي القديم الذي ينتمي لعهد الاقطاع وهو يضعف كل يوم لصالح انقسام طبقي جديد في ظل العلاقات الرأسمالية السائدة.
وعلى الرغم من ان المهمشين لا يشكلون نتوء غريباً عن المجتمع اليمني في زيه ولغته ودينه ومذاهبه ولهجاته المحلية، إلا أن لديهم سمات مُعينة تميزهم عن بقية الفئات والاجتماعية اليمنية وهي سمات في غالبيتها سلبية تزيد من نفور المجتمع عنهم وتضرب بينهم وبين المجتمع سياجا، وهذه السمات ليست نابعة من عرقهم الأفريقي ولا من لون جلدهم ولم يختارونها لأنفسهم قناعة ولا يتمسكون بها كقدر، بل نابعة من وضعهم الاجتماعي الاقتصادي السيء، ومفروضة عليهم قسرا، وجدوا أنفسهم معها ويمكن تغييرها، وتتمثل هذه السمات بالآتي:
- عدم الاهتمام بالنظافة الشخصية.
- تسيد الكلمات البذيئة والفاحشة في أحاديثهم وتلميحاتهم.
- قصور الوعي الديني وانعدام الثقافي والسياسي.
- عدم الاهتمام بالحصول على المستندات الحكومية الرسمية كعقود الزواج والبطائق الشخصية والعائلية..
- التداوي بالطرق البدائية من طب شعبي بالأعشاب والشعوذة.
- الانجاب العشوائي وعدم تنظيم الأسرة.
- الجهل والأمية وعدم الاقبال على التعليم.
- الانحصار على الأعمال الذي يُسميها المجتمع “المحتقرة”.
- السكن في محاذاة مجاري السيول.
- خروج الاطفال والنساء للتسول وبقاء الرجال في المنازل (أكواخ الصفيح غالبا).
- استهلاك كل ما يملك في ذات اليوم وانعدام ثقافة الادخار للمال او السلع، خلدها الوعي الاجتماعي في مَثَل ” يومه عيده”.
الأعمال التي يزاولونها حاليا
فرض نمط الانتاج الاقطاعي السابق على فئة ” المهمشين” وغيرهم العمل في مجالات معينة لا يمكن تجاوزها، وهذا يُسمى اقتصاديا بنظام الطوائف، فالحرفي يعمل ابنه حرفيا والقاضي قاضيا والفلاح فلاحا..الخ وفي ظل هذه التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، كان “المهمشين” في أدنى المراتب الاجتماعية.
إلا أن تطور البنية الاقتصادية الاجتماعية وسعت من مجالات عملهم، رغم انهم مازلوا يعملون في الأعمال القديمة، وبعضها أعمال اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين -بفعل نشاط الحركة الصهيونية- وفي الغالب فإن اعمالهم تتوزع بين اصلاح الاحذية والجلديات، العزف بالمزمار والدف والرقص والتسلية، النظافة والزبالة وإصلاح المجاري، وأعمال الحمالة، ومختلف الأعمال الحرة اليومية التي تتطلب جهداً عضلياً.
مع تغلغل العلاقات السلعية في اليمن وظهور السوق المحلية، ظهرت الحاجة إلى توسيع زراعة الخضار وبيعها كسلع رأسمالية لا انتاج بضعي (كل صاحب منزل ينتج ما يحتاجه في أرضه)، ونظراً لأن الفلاحين والقبائل عموماً ينظرون إلى زراعة محاصيل خضروات الثوم والبصل والبقل والكراث وغيرها كعمل محتقر، والسبب -كما افترض- لأن هذه المنتجات الزراعية رائحتها سيئة وتحتاج إلى عمل يومي طوال العام وهو عمل مجهد على عكس المنتجات الموسمية، فقد اوكلت هذه المهمة الجديدة إلى ” المهمشين” وهذا يُعد اختراقاً كبيراً ففيما مضى لم يكن يعمل ” المهمشين” في الزراعة.
في الوضع الراهن فإن “المهمشين” مازالوا يعملون في ذات الأعمال السابقة المذكورة، وفي المدن هناك هامش مُعين لتحررهم من الأعمال النمطية القديمة، فبعضهم يعملون في بيع القات (كعمال لا ملاك) والمياه الورود السيديهات وغيرها من السلع التي تباع للسيارات في الشوارع، وبعضهم يعملون في قيادة الدراجات النارية وسيارات الأجرة الصغيرة، وهم في الغالب يستأجرونها ولا يملكونها، ولا يجد المجتمع غضاضة في التعامل معهم في أعمالهم الحديثة هذه أي لا يُنكر عليهم هذه الأعمال ولا يرى بأنه يجب عليهم ان ينحصروا فقط في الأعمال التي ينظر إليها كأعمال ” مستحقرة”.
إن هذه المسألة تفتح آفاق كبيرة لتحرير “المهمشين” من واقعهم السيء فلا يتطلب ان تقوم الدولة فحسب بعمل خطة ثقافية لتوعية المجتمع بان يتقبل عمل ” المهمشين” في سائر الأعمال، وتخاطبهم بان يعملوا في سائر الأعمال وبأن القانون والدستور يكفل ويكفل إلى آخر السرديات الدستورية، بل الحاجة تكمن في ان تجعلهم قادرون على ممارسة هذه الأعمال وتملكهم وسائل الانتاج وتهيئ لهم العمل فيها وستقبلهم المجتمع اضطرارا في التفاعل الجدلي اليومي في الحياة العامة.
(قصف تحالف العدوان لمدينة عمال النظافة من المهمشين في سعوان 13 يوليو 2015م)
المهمشون كجزء من الطبقة العاملة اليمنية
هناك خصوصية في التعامل مع المهمشين، نتيجة وضعهم الاجتماعي المتردي، إلا ان قضيتهم هي في جوهرها قضية الطبقة العاملة اليمنية، فلا يجب المبالغة في تقدير خصوصية وضعهم الاجتماعي حتى نفترض بأن لهم قضية خاصة منفصلة عن قضية سائر المستضعفين والفقراء والكادحين والعاطلين اليمنيين.
على مستوى الطبقة العاملة اليمنية نجد بأن العمال المهمشون هم الأكثر بؤساً، فغالبية العمال اليمنيين (من غير المهمشين) في المدن والقرى لا يبيعون فقط قوة عملهم العضلية كمصدر أساسي للمعيشة ولكن إلى جانب ذلك فلدى هؤلاء العمال منازل في الأرياف والمدن وتملك اسرهم مواشي ودواجن وقطع أرض صغيرة ويذهب ابنائهم إلى المدارس فتتحسن فرص ارتقائهم الاجتماعي، فالطبقة العاملة اليمنية (من غير المهمشين) لها هذه السمات المميزة، وبالنسبة للمهمشون فهم يفتقرون إلى هذه المميزات، فهذا فقط هو الفارق بين العمال المهمشون والعمال من غير هذه الفئة.
الفوارق بسيطة بين العمال من المهمشين وغيرهم، وبين العاطلين عن العمل من المهمشين وغيرهم، إلا ان المشتركات هي أكبر، فسائر العاطلين عن العمل والفقراء والمتسولون والمشردون والمعدمون، هم كالمهمشين في حاجة إلى الارتقاء بعملهم عن طريق تطوير القطاعات الاقتصادية الإنتاجية بشكل أساسي ومن ثم الخدمية، فتوسيع القاعدة الاقتصادية الانتاجية الصناعية والزراعية هو الحل للكادحين اليمنيين من العمال المهمشين وغيرهم، مع الأخذ بعين الاعتبار ان يُفرض على أرباب العمل ان يستوعبوا نسبة معينة من المهمشين في إطار أعمالهم نسبة 12% وهي نسبة تعدادهم في المجتمع.
منشأ نظرة الاحتقار تجاه المهمشين
نظرة الاحتقار للمهمشين حقيقة لا يُمكن تجاهل وجودها، مع العلم بأنها تتراجع في حدتها اليوم عما كانت عليه سابقاً فظهور مفهوم ” المهمشين” بدلا عن مفهوم ” الأخدام” ومزاحماً له، إنما يُعبر عن هذا التغير في الوعي الاجتماعي اليمني، وهو ارتقاء نسبي في الوعي قابل للتطور.
نشأة الاحتقار لها فرضيان أساسيتان، الأولى: أنهم أحفاد الغزاة الاثيبوبين القدامى، والأخرى لأن بشرتهم سمراء وسوداء، هذه الفرضيات غير مقنعة تماماً وربما تكون من ضمن الأسباب إلى جانب أسباب وعوامل أخرى، وما يجعلنا نستنتج ذلك هي حقيقة أنه ليس هناك في اليمن احتقار لمن هم من أصول الغزاة القدامى والمهاجرين كمن هم من أصول فارسية وأصول هندية وأصول كوردية، كما ان لون البشرة ليس هو العامل الحاسم في تولد نظرة الاحتقار، ففي المجتمع اليمني لا يُعامل الصوماليين والأثيوبيين والسودانيين -المقيمين في اليمن- بدونية ولا ينظر إليهم باحتقار كما هو الحال تجاه المهمشين، والأرجح أن الوضع الاجتماعي المزري الذي يعيشون فيه والسمات الخاصة التي تعلقت بهم، هي منشأ نظرة الاحتقار وخاصة في هذا العصر، ومن توصلنا على هذه النتيجة فنحن نبني عليهم مسألة ان زوال نظرة الاحتقار ممكنة إذا ما تم تغيير واقعهم وبأن نظرة الاحتقار لهم معطى اجتماعي غير ثابت وليست عنصرية عرقية متأصلة كما هي النظرة العنصرية ضد الزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية.
تجارب دمج ” المهمشين” في المجتمع اليمني
إبان حكم الحزب الاشتراكي اليمني في جنوب الوطن حصل المهمشون على كثير من الحقوق من ضمنها الاسكان والتعليم ومحو الأمية والتطبيب المجاني فكانوا جزء من موظفي الدولة وكوادرها وترقوا في المناصب -في ظل الكفاءة لا وفق نصيب كوتا- وحصلوا على المنح للدراسة في الخارج كغيرهم، وتم مكافحة الأمية في أوساطهم، ومكننة أعمال النظافة والبيئة وتطويرها، مما ضاعف من تقدير المجتمع لهم بعد الاندماج التام، ومن بعد حرب 94 تم سلب هذه الحقوق منهم كما من ضمن بقية افراد المجتمع ولم تكن قد ترسخت بعد اوضاعهم الجديدة فعجزوا عن الدفاع عنها وتماثل وضعهم الاجتماعي في الشمال والجنوب أي وضع التهميش.
في العقدين الأخيرين تمت تجربتان لبناء مدن سكنية للمهمشين في تعز، “مدينة النور” ومدينة “الوفاء”، وتجربة في صنعاء، إلا أن ذلك لم يغير من حياة المهمشين سواء في هذه المحافظات عموما أو في هذه المدن السكنية المستحدثة، فقد تبين أن الأزمة أعمق من مجرد إشكالية الإسكان.
كما نُفذت سابقاً مبادرة في جامعتي تعز وصنعاء، واقتضت استيعاب المهمشين بنظام التعليم الموازي والنفقة الخاصة، مع إعفائهم من كافة رسوم الدراسة بهذا النظام وتكفل الدولة بها، إلا أن هذه المبادرات المحدودة لم تغير من حياتهم الاجتماعية ومركزهم الاجتماعي فلم تنفي عنهم طابع التهميش، وهذا يعود لأنها استهدفت معالجة مشاكل جزئية وأعداد محدودة، إلا انها أي هذه التجارب مهمة على الصعيد التجريبي والتحليلي حيث يُمكن البناء عليها، بوضع حلول لا تكون جزئية بل تشمل كل أجزاء الظاهرة، ولا تكون محدودة بل تشمل كل عناصر هذه الفئة الاجتماعية المهمة وفي كل المحافظات.
المهمشون في تجربة المجاهدين:
في سنوات العدوان على بلادنا، انخرط المهمشون كغيرهم من الفئات الاجتماعية اليمنية في مواجهة العدوان بعد تحفيزهم بالنشاط الثقافي وبعد استفزاز العدوان لهم بجرائمه حيث كانت التجمعات السكانية للمهمشين ففي تعز وصنعاء وغيرها من ضمن التجمعات السكانية الذي أستهدفها العدوان.
في تجربتهم الجهادية اندمج المهمشون مع سائر المقاتلين من غير المهمشين بكل يسر ودون تكلف وذلك يعود لأمرين الأول لأن الخطاب الجهادي لأنصار الله في تحميله المسؤولية قائم على أساس المساواة ويولي أهمية كبيرة لأدوار المستضعفين في عملية التغيير الثوري، والثاني لأن المجاهدون في الجبهات يعيشون بمعزل عن المجتمع وتنشأ بينهم روابط من التعاون الوثيق الذي هم بحاجة إليه للمحافظة على وجودهم فهم لذلك يعيشون حياة عملية وانفعالات عاطفية فتزول الاشكال الظاهرة من سلالات وأعراق وألوان بين المجاهدين وتترسخ القيم والأخلاق والفداء في ظل الأخوة الجهادية، وفي كثير من الجبهات وصل المهمشون إلى مراتب قيادية.
أحد المجاهدين من فئة المهمشين ” أحفاد بلال”
زيد عبده ناصر، رئيس “جمعية أحفاد بلال” في محافظة صعدة، وهو يُعتبر من وجهة نظر البحث العلمي والتحقيق الصحفي مرجع ومصدر رئيسي للمعلومة وما يقدمه من حديث هو من الواقع الملموس ويعتبر أكثر قيمة من التحليل النظري، تحدث بأن تغير نظرة المجتمع في صعدة مع ” المهمشين منذ عام 2011م مع انخراطهم في الثورة الشعبية، وبعدها جاء تعميم من السيد بان يسموا “أحفاد بلال”.
تحدث من واقع اطلاعه بأن المجاهدين من أحفاد بلال يشعرون بمكانة انسانية لائقة في مجتمع المجاهدين في الجبهات يحضون بالإكرام والتقدير، مبيناً ان نظرة الناس للمجاهدين من أفراد بلال نظرة احترام وتقدير، وبالنسبة للشهداء تحدث بان طقوس الاحتفال بالشهداء من أبناء بلال لا تختلف عن بقية الشهداء من أبناء مشائخ أو غيرهم، من حيث مواكب التشييع، ومجالس العزاء الذي يقبل عليه المجتمع وتعامل مؤسسة الشهداء معهم على قدر من المساواة.
المهمشون والمشاركة السياسية المدنية وحقوق المواطنة
وفق الاحصائيات السكانية القديمة يُقدر عدد المهمشين 4 مليون من اصل 28 مليون مواطن يمني أي ما يساوي 12% من السُكان، 80% من المهمشين لا يملكون أوراق ثبوت هوية، على المستوى السياسي فأول صوت مسموع لهم في منصة رسمية كان من خلال مؤتمر الحوار الوطني الشامل عبر ممثل وحيد.
لدى المهمشين منظمات مجتمع مدنية، إلا انها شكلية منفصلة عن واقعهم وفي الحقيقة هناك طبقة من المهمشين من المتعلمين والعاملين اصبحوا متمايزين عن بقية المهمشين، وينشطون في إطار النهج اللبرالي في تصور الحقوق والحريات والتغيير، وهو ما يجعل من نشاطها غير عملي إذ لا يصب في تحقيق تغيير جذري.
وعلى سبيل المثال الاستاذ نعمان الحذيفي عضو مؤتمر الحوار الوطني ورئيس ” الاتحاد الوطني للمهمشين” تحدث لموقع العربي قائلاً: “نسعى لإعداد خطة استراتيجية لمدة ثلاث سنوات، تهدف إلى إحداث وعي مجتمعي، تعليمي حقوقي وسياسي، لدى المهمشين. وتبلغ تكلفة تنفيذها ثلاثة ملايين دولار”. ولو أنه رصد هذا المبلغ لتحسين الحياة العملية للمهمشين لكان الأمر اقرب إلى الصواب، فمثل هذا الخطاب العقيم الذي يرصد ملايين الدولارات للتوعية ويتجاهل التنمية الانتاجية دليل على فشل النهج اللبرالي في حل مثل هذه المشاكل، وهو النهج الحاكم في اليمن منذ التعديل غير الشرعي للدستور عقب حرب صيف 1994م الذي حوله من مخطط إلى حر، ولو كان في هذا النهج الاقتصادي اللبرالي حل لمشاكل المجتمع لكان أولى به ان يحل من مشكلة المهمشين وسائر الفقراء اليمنيين الذين ازدادوا فقرا في ظل السياسة الاقتصادية اللبرالية.
المهمشون في مؤتمر الحوار
واقع المهمشين ، لم يتغير حتى في مؤتمر الحوار الوطني، فمن جهة التمثيل تم تمثيلهم بعضو واحد من قائمة رئيس مؤتمر الحوار لا تمثيل شريحة اجتماعية تمثل 12% من الشعب، ومن جهة ذكرهم في مسودة مخرجات الحوار الوطني فقد وردت مفردة ” مهمشين” 14 مرة، في مقابل ذكر مفردة الشباب 108م، وجاء ذكر المهمشين في نصوص مطاطية فضفاضة وعادة ما كان يأتي ذكر مهمشين في نهاية سطر يبدأ بالمرأة والشباب وذوي الاحتياجات الخاصة، وكان ذكر المهمشين من باب إسقاط واجب لا من منطلق وضع معالجات خاصة لهذه الاشكالية الاجتماعية.
ممثل المهمشين في مؤتمر الحوار الوطني 2013م
صيغة النصوص التي جاء فيها ذكر المهمشون غير ملزمة بل من باب تلتزم الدولة تقوم الدولة تضمن الدولة ترعى الدولة ..الخ كمحددات دستورية وقانونية تكفلت بها الدولة في نصوص أخرى لبقية الشعب، أي انه لم يأتي هناك تخصيص لهذه الفئة الاجتماعية التي تعيش تقع اسفل السلم الاجتماعي وتواجه عراقيل أشد مما تواجه بقية الشرائح الاجتماعية الفقيرة.
ومن هذه النصوص العامة في مؤتمر الحوار الوطني ما يلي:
“تكفل الدولة وضع الخطط وتبني سياسات وطنية عادلة تكفل المهمشين في الحصول على السكن اللائق والخدمات الأساسية وتوفر لهم الرعاية الصحية المجانية وفرص العمل والحماية والرعاية الاجتماعية والتقاضي العادل بما يكفل لهم حق الحياة والعيش والكرامة الإنسانية كحق أصيل وضمان احترامه وحمايته واجب إلزامي على كفة سُلطات الدولة”.
“تتخذ الدولة تدابير تشريعية لحماية أشخاص أو فئات مُعينة مثل المهمشين ، المرأة….”
أحد المخرجات التي اهتمت بشكل خاص بهذه الفئة هي ما يلي:
“تتخذ الدولة كافة التدابير اللازمة لإدماج المهمشين بالعملية التعليمية واعتماد إلزامية التعليم ومنح دراسية في المرحلة الأساسية والثانوية والجامعية وتتحمل السُلطات تكاليف المنح وتخصيص نسبه في المعاهد والكليات العسكرية والمدنية بما يتناسب مع عددهم السكاني”.
وطبقاً لمعايير ما يُسمى “بالكوتا” ومفهوم “التمييز الإيجابي بشأن تمثيل المهمشين في أجهزة الدولة جاء ما يلي:
“نص دستوري يتضمن حماية حقوق المهمشين في المشاركة والتمثيل بنسبة 10 % من الوظائف العامة ولهم الحق في تقلد المناصب القيادية في كافة الهيئات والمؤسسات والمجالس والسلطات التشريعية والمنتخبة وتتخذ الدولة كافة التدابير القانونية اللازمة تحقيق ذلك وبما يكفل مشاركتهم في الحياة العامة المدنية والسياسية والوصل إلى مواقع صنع القرار بمساواة تامة مع بقية الفئات”.
ورغم ان تخصيص ما يُسمى بالكوتا والتمييز الايجابي هو مرحليا أمر مهم، إلا انه ليس حلاً ناجحاً فالمهمشون ليسوا بحاجة إلى نسبة مُعينة من الوظائف الحكومية والتمثيل السياسي، أكثر من كونهم بحاجة إلى كسر القيود التي تعيق اندماجهم الاجتماعي ومشاركتهم الواسعة في الحياة الاجتماعية الاقتصادية السياسية، فالحل هو في الارتقاء بواقعهم العام تدريجياً لا أخذ نسبة منهم واعطائهم وظائف حكومية في الجهات الرسمية الهامة فمثل هذا الأمر سوف يعود بالنفع على الذين سيحصلون على الوظائف والمراكز الحكومية فيما سيظل واقع السواد الأعظم منهم في ذات وقعهم الاجتماعي البائس. فنسب الكوتا ستكون مهمة وذات نفع في إطار الحل الشامل أي ان الكوتا جزء من حل عام لا كل الحل ولا نصفه ولا الجزء الرئيس فيه.
التوصيات المستخلصة:
- القيام بحملة وطنية لقطع بطائق شخصية للمهمشين ممن بلغوا السن القانونية، لضرورتها في الدمج الاجتماعي وما ستبنى عليه من تصرفات قانونية.
- القيام بحملة تعداد سكاني خاصة بالمهمشين حتى تكون البرامج مبنية على ارقام حقيقية.
- يتم اصدار توجيه من مكتب الصناعة ويتابع تنفيذه بأن على كل من يملك منشأة انتاجية صناعية وشبه صناعية من ورشات وأعمال حرفية، وكذلك منشئات زراعية، أن يقوم باستيعاب عمالاً من المهمشين في منشاته الانتاجية بنسبة معينة تتناسب مع حجمهم من السكان.
- التجريم القانوني لإطلاق لفظة “أخدام” عليهم .
- حل مسألة الإسكان للمهمشين بصورة خاصة.
- استيعاب نساء المهمشات في أعمال الخياطة، ودمجهن في مشاريع الأسر المنتجة التي ظهرت بشكل متزايد في مرحلة مواجهة العدوان.
- توجيه دعم المنظمات المحلية والأجنبية للمهمشين نحو المشاريع التنموية للمستفيدين منهم.
- استيعاب نسب من المهمشين كقوى عاملة في مختلف المبادرات والأنشطة التي تنفذها المؤسسات التنموية والخيرية، واعتبار هذا التمثيل شرط للسماح بتنفيذ هذه الأنشطة.
- القيام ببرامج وطنية تستهدف التوعية بحقوق المهمش داخل فئته أولا ثم في الوسط الاجتماعي عامة.
- عمل ندوات ورش عمل حول لهذه الفئة الاجتماعية حول اعادة تأهيلهم عمليا وثقافيا.
- التعليم الإجباري لكل اطفال الفئة في المدارس الحكومية من شأنه اختصار الكثير من الخطوات .. مع اعطاء أُسرهم سلال غذائية مقبل التعليم لأن اطفال المهمشين يمنعوا من التعليم من قبل أسرهم من أجل أن يتسولوا .
- اشراكهم بمشاريع التنمية الزراعية وإعطائهم أراضي زراعية تابعة للدولة كتمليك أو تأجير بسعر رمزي.
- دفع اطفالهم للمدارس العامة ستذوب الفئة في سن مبكر وسترتفع درجة الوعي لديهم سيدفع بهم للمزيد من الانخراط تصاعديا المدرسة ثم الثانوية ثم الجامعة.
- هناك الكثير منهم في مختلف المناطق يشكلوا مجموعات فنية بمبادرات شخصية كفرقة غنائية وراقصة شعبية ومثل هذ المبادرات بحاجة إلى رعاية رسمية.
- تشكيل صندوق مالي لبرنامج رعاية ودمج المهمشين على غرار صناديق دعم الشباب وذوي الاحتياجات الخاصة وغيرها من الصناديق.
- اعادة توزيع الموازنة العامة بما يوفر أموال لبرنامج رعاية ودمج المهمشين.