“أنا لا أعدكم بشيء، ولكني أعدكم أن لا أمثلكم في باطل”، بهذه الكلمات الوجيزة خاطب الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي ناخبيه في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 1993م ، بما تحمله من معاني نبيلة، وقيم صادقة، وواقعية ومسؤولية وشفافية، على عكس الشعارات المُعتادة من المتنافسين في الماراثونات الانتخابية الدنيوية بمختلف مسمياتها، ومُجافات تلك الشعارات للواقع.
كانت كلمات “السيد” نابعة من القلب، والترجمة العملية لتعامله مع محيطه ومجتمعه في كافة مراحل حياته، ولا عجب فهو العالم العارف بالله، قبل أن يكون مُمثلاً لناخبيه في البرلمان، وحفيد الهادي إلى الحق مُحيي الفرائض والسنن الإمام يحيى بن الحسين عليه السلام، وابن تُرجمان القرآن المرجع العَلَم شيخ الزيدية في زمانه السيد الأجل بدر الدين، وسليل الأطايب.
إذن فنحن أمام شخصية استثنائية في تاريخ اليمن المعاصر، تدخّلت في تكوينها وصقلها العناية الربانية، لحكمة إلهية، أتت في مرحلة فارقة من تاريخ الأمة، أصبح الإسلام فيها غريباً، وصار المسلمون في أوطانهم غُرباء، وتحول يمن الأنصار إلى مرتع لقوى الاستكبار العالمي والجماعات التكفيرية ، فكان لا بُد من قائم حق، يُعيد إحياء ما اندرس من معالم الدين، ويعيد الحياة والفاعلية ليمن الأنصار الموقع والتاريخ والإنسان، بعد ثمانية عقود ونيّف من الموات والتبعية للدرعية، واستلاب الإرادة اليمنية والقرار اليمني، واستباحة سيادة البلاد ونهب ثرواتها والانبطاح لقوى الشر والاستكبار العالمي.
لم يتعمّر سلام الله عليه طويلاً فمولده بـ”الرويس” من أعمال محافظة صعدة في شعبان 1379 هـ، واستشهاده في 26 رجب 1425 هـ، وما بينهما 46 خريفاً، شهدت اليمن خلالها ولادة مدرسة قرآنية تجديدية إحيائية حسينية، لها سماتها وخصائصها، وهي واحدة من المدارس الإحيائية التي زخر بها الفكر الزيدي خلال تاريخه العريض، وإحدى أبرز وأهم المدارس الإحيائية في القرنين الأخيرة في عالمنا العربي المكلوم، لكنها تفرّدت عن سابقاتها بالحياة والديناميكية وعالمية النظرة والرؤية، والتشخيص الدقيق للأمراض والأزمات العاصفة بالأمة الإسلامية، وتقديم الحلول الناجعة في زمن العقم السياسي والفكري والمذهبي.
ترك لنا سلام الله عليه عشرات الخُطب والملازم، هي ثمرة سنوات من الخلوة والتأمل في كتاب الله، جسّدت مُتجمعة الجانب النظري لمدرسته القرآنية الفريدة في مبانيها ومعانيها وغاياتها ومقاصدها، وقدّمت رؤية واعية لمشكلات وتفاعلات الواقع على كافة الأصعدة محلياً وعربياً ودولياً، وكشفت حقيقة العدو التاريخي لأمة الضاد، وما يُحاك ضدها من مخططات استعمارية وتدميرية.
هذا العدو للأسف يعمل الأعراب اليوم على كسب رضاه ولو على حساب أمتهم وشعوبهم ودينهم وشرفهم وكرامتهم وسيادتهم، وتقديم فروض الولاء والطاعة له، في صورة مُزرية ومُخزية ومُهينة، تجعل الأمة على يقين بصوابية توجه الشهيد القائد، وصوابية رؤيته التحذيرية من مغبة الابتعاد عن كتاب الله والركون إلى أعداء الله، والتفريط في الثوابت والمقدسات، وما يترتب على ذلك من ذل وهوان واستلاب لأوطاننا وثرواتنا ومقدراتنا وكينونتنا وإنسانيتنا وحريتنا وكرامتنا ومقدساتنا.
كما حرصت مدرسته سلام الله عليه على تصحيح المفاهيم المغلوطة التي حاول أعداء الإسلام غرسها وإشاعتها، سواء من خلال المنابر الإعلامية بمسمياتها المختلفة، أو من خلال مشائخ التكفير والتابو، أو من خلال التنظيريين العلمانيين والاستشراقيين والليبراليين، أو من خلال المُبشرين، أو من خلال السموم التي تبثها المنظمات الدولية في مجتمعاتنا وهي أكثر خطراً وفتكاً لتلبُّسها بشعارات أموية براقة.
وما يُحسب لتلك المدرسة المُقدّسة أيضاً إحياء “الشعور بالمسؤولية”، في زمن الخمول والخنوع والتميُع، وإحياء “المبادئ الإنسانية”، في زمن الغاب والرأسمالية المتوحشة.
عاش سلام الله عليه مع القرآن وللقرآن، ما جعل أعداء القرآن يضعونه على قائمة أعدائهم الوجوديين، وأتى بعد فترة من خمول علماء الزيدية وتقوقعهم في المحاريب، وانفصالهم عن واقع الناس، وعن تفاعلات محيطهم الاجتماعي والسياسي والفكري المحلي والإقليمي، وقضايا وطنهم وأمتهم، رغم ما يُحتّمه واقع الفكر الزيدي الثوري التحرري من تصدُّر المشهد، والوقوف ضد سلبياته، ومقارعة المظالم الناجمة عن ولاته، والحفاظ على بيضة الدين من التحريف والتأويل والتدجين.
وكأبيه وأجداده سلام الله عليهم لم يستطع سيد شهداء المسيرة القرآنية المُباركة الصمت أمام ما يشاهده من مظالم وقضايا وأزمات وتضليل فكري وديني وانبطاح وتدجين وخنوع وذل وهوان لأمة أراد الله لها العِلِّية والتمكين إن هي تمسّكت بالعترة والقرآن الكريم، وأراد لها حُكامها الركوع والخضوع لشياطين البيت الأسود وخنازيرهم في فلسطين المحتلة، فقرر سلام الله عليه منذ وقتٍ مُبكر تشمير السواعد وقيادة مسيرة الجهاد الفكري والعملي على كافة الأصعدة وبمختلف الوسائل، ومقارعة الباطل والمبطلين، وإعادة الأمة الى القرآن، وإعادة القرآن إلى حياة الأمة كما أراد الله، ليكون دستور حياة تعيشُه الأمة في كافة مناشط الحياة، وتُبدِّد بنوره دياجير ظُلمات الظَلَمَة المتفرعنين، لا كتاب جامد تنسج عليه العناكب خيوطها في رفوف خزائن المساجد المنسية والمهجورة.
قاد سلام الله عليه ثورة فكرية ثقافية شاملة ضد الثقافات المغلوطة والوافدة والدخيلة والعقائد الباطلة التي تُؤسس وتُشرِّع للطغيان والظلم، وثار على الثقافات المنحرفة التي أوصلت المئات من الطواغيت إلى سِدة الحكم، وهيئت لهم الساحة ليحكموا الأمة بالقهر والغلبة والنار والحديد والمكر والخداع والحيل.
ويومها بدء نظام صنعاء يشعر بخطر هذا المُجدد القادم من جبال “مران” النائية على مستقبل نظامه ومصالح أولياء نعمته في البيت الأسود، فعمل على إفراغ الحزب من محتواه، وتكبيل تحركات “السيد” البرلمانية والسياسية، ليقرر “السيد” في العام 1996 مغادرة الحزب والبرلمان.
هذا التحرر أتاح له الحركة بحرية، ومع هذا التحرر بدأة مرحلة جديدة في تاريخ المدرسة القرآنية، سواء فيما يتعلق بكشف المخططات الأميركية والصهيونية في المشرق العربي وتداعياتها على مستقبل الأمة وكينونتها، أو ما يتعلق بتوسيع النشاط الثقافي والتوعوي والإرشادي والتنويري، أو فيما يتعلق بمقارعة الظلمة والظلم ومظالم النظام الحاكم، وفي مقدمتها رفضه سلام الله عليه العدوان الآثم على المحافظات الجنوبية والشرقية صيف عام 1994، وما ترتب على ذلك الموقف الديني والإنساني والأخلاقي والوطني من تبعات جعلت النظام يُرسل في 16 يونيو 1994 حملة عسكرية غاشمة لمعاقبته وأنصاره في “مران” و”همدان”، لم تُوفِّر شيئاً في طريقها، فطالت نيران حقدها حتى منزل السيد ووالده في مران، واعتقلوا العشرات من أبناء تلك المناطق لأكثر من عام، في حقد يزيدي غير مسبوق في تاريخ اليمن المعاصر.
ولم يكتفِ نظام صالح والإصلاح بذلك، بل وحاولوا مراراً تصفية “السيد”، لكن عناية الله حالت دون ذلك، ليُقرروا في العام 2004 التوجه للقضاء عليه في عرينه، بتوجيه وتخطيط أميركي صهيوني، في سابقة مُشينة، بعد أن أحسّ الأميركان والصهاينة بتعاظم وتوسع المشروع القرآني وخطورته على أجندتهم الإستعمارية في المشرق العربي.
وكان لهم ذلك في 26 رجب 1425 هـ، بعد حرب ظالمة دامت أكثر من 80 يوماً، فأحرقوا “السيد” وأسرته ومجموعة من رفاقه الجرحى بالقنابل في أحد كهوف جبل مران، بطريقة أعادت نكئ الجروح الكربلائية من جديد، ذكرتنا بما جرى لأبي عبدالله الحسين بن علي سلام الله عليه في كربلاء العراق، لكنهم لم ينالوا من فكره القرآني الرباني، بل أصبح فكره بعد رحيله حديث الناس، ومهوى الأفئدة الباحثة عن الحياة القرآنية الحرة والكريمة، وأصبحت له دولة وصوت مُؤثر في أحداث المنطقة سلماً وحرباً، ورسم مستقبلها.
وبعد سنوات معدودة تهاوى ذلك النظام الظالم، واعترفت حكومة صنعاء في 21 أغسطس 2013 رسمياً بعدم مشروعية حروب صالح والإصلاح الظالمة ضد “السيد” وأبناء صعدة، واعتذرت عن ذلك الفعل المُشين، وسلّمت في 5 يونيو 2013 الجثمان الطاهر لذويه.
لقد انتصر دمُك الطاهر وفكرك القرآني المُّستنير سيدي، وأصبحت صرخة المستضعفين التي أطلقتها في زمن الصمت والعقم العربي تتردد على لسان كل المظلومين والمعذبين والمستضعفين في العالم، ومدرستك لم تعد حبيسة جبال مران، بل صار لها جامعات ومعاهد وكليات ودولة، وأنصارك أصبحوا حديث كل العالم ومفخرة كل الأحرار، فنم قرير العين، لروحك السلام.