نص الدرس السابع من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي من دروس عهد مالك الأشتر 07-12-1443 هـ 06-07-2022
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
سبق الحديث فيما يتعلق بالمسؤوليات، والهيكل الإداري للدولة، عن المستشارين، والوزراء، والأعوان المباشرين، وعن المسؤوليات العسكرية والأمنية، وعن القضاة، والقضاء، وما يتعلق بذلك.
ثم وصلنا الآن إلى معايير اختيار المسؤولين والعمال، قال “عليه السلام”: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ))
العمال: الذين هم مسؤولون على مناطق معينة، سواءً بحسب المسميات الإدارية أو العناوين الإدارية، محافظات، أو مديريات، أو ولايات، أو… في أي مستوى من المستويات، أو على رأس مثلاً مؤسسات معينة كبيرة، حسن الاختيار للمسؤولين والموظفين عاملٌ أساسيٌ في النجاح والنهضة والازدهار، وتحقق الأهداف المهمة، وتحقيق الاستقرار في الواقع، لا يمكن أن تنهض أمةٌ ولا شعبٌ، وأن تنجح في تحقيق أهدافها، وأن تبني حضارة، وأن تزدهر حياتها، وأن يستقر واقها، إلا بذلك، عندما يكون المسؤولون القائمون على الأعمال والمسؤوليات من ذوي الكفاءة الأخلاقية، والمهنية، والعملية.
هذه مسألة مهمة جدًّا، ولابدَّ تفهمها من الجميع، ممن هم في موقع المسؤولية، ومن المجتمع نفسه؛ لأن المجتمع إذا لم يعتمد على أساس هذه النظرة، ويبني على ذلك، فيمكن أن يكون هو مساهمٌ في اختلال هذا الأمر، من خلال فرض شخصيات غير كفؤة في أعمال معينة أو مسؤوليات معينة، بطريقة أو بأخرى، وكذلك داخل الدولة نفسها فيما يتعلق بالمعنيين بالمسؤوليات الأساسية، عندما لا يتفهمون أهمية هذه المسألة، فتأتي التعيينات الخاطئة.
حسن الاختيار ينبغي أن يعتمد:
– أولاً على المعايير، معايير محددة، تبين مثلاً صلاحية لهذه المسؤولية، أو لهذه الوظيفة بحسبها، بحسب ما تتعلق به، وما يستلزم ذلك من معايير معينة، أو مواصفات معينة، بحسب نوع المسؤولية، أو مجالها، هذا جانب.
– كذلك أن يلحظ في مدى الأهلية والكفاءة: التجربة العملية، أن يكون هذا الإنسان الذي يراد تعيينه على رأس مسؤولية معينة، ممن له تجربة عملية، لا يكون إنسان لا كفاءة له في العمل، وليس له أي تجربة عملية أصلاً، وإنما أوتي به من أول يوم ليكون في تلك المسؤولية، أو في ذلك العمل، وليس بالضرورة أن تكون التجربة العملية في نفس المنصب، يمكن أن تكون في نفس المجال، أو في مهام وأعمال ذات تشابه مع طبيعة تلك المسؤولية، الكفاءة فيها تعتبر كفاءة لتلك المسؤولية، وما شابه ذلك.
– أيضاً التأهيل لمثل ذلك النوع من المسؤوليات: أن يكون هناك تأهيل، أن يكون هناك بناء وتعليم سابقاً، ما قبل تبوء ذلك المنصب، ولاحقاً فيما بعد أن تستمر عملية التأهيل للارتقاء بالكادر العملي، بالموظفين، بالمسؤولين في أداء مسؤولياتهم.
عملية الاختبار عندما يقول هنا: ((فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً))، من خلال الاختبار لهم، ليس فقط بمجرد حسن الظن فيهم، أو الأمل فيهم، أو بالنظر إلى جوانب معينة في سلوكياتهم العامة، لا يكفي هذا، والاختبار يمكن أن يلحظ في ذلك الجانب العملي، والجانب النظري.
– الجانب النظري، مثلاً: أن تستشيره، أن تستفسر منه، أن تتعرف على رؤيته، تفكيره عن تلك المهام، عن تلك الأعمال، بالطريقة المناسبة، أو أن يقدم دراسة، أو رؤية عملية، عن ذلك المجال؛ لتعرف كيف يفكر، كيف ينظر في مسائل معينة، في جوانب عملية معينة.
– ثم كذلك الاختبار في الأداء العملي: من خلال تكليفه بمهام عملية، وتقيم كيف نجاحه في تلك المهمة العملية، وتلك المهمة العملية الأخرى، وهكذا، حتى يكون لديك صورة تقريبية عن مستوى كفاءته لتلك المسؤولية التي تفكر في أن تعينه فيها.
فالاختبار طريقة مهمة جدًّا، يساعد الإنسان حتى لا يتورط عندما يعتمد فقط على الظن والتخمين، والتقدير النفسي، تقدير غير المبني على واقع عملي، ولا على اختبار عملي؛ إنما من باب حسن الظن فحسب، فالاختبار في مهام، في أعمال ينجزها، الاختبار في معرفة تفكيره تجاه ذلك الأمر، أو ذلك الأمر، أمر مهم جدًّا، وأمر يساعد على حسن الاختيار، قد تكتشف أن ذلك الإنسان ليس مناسباً في ذلك العمل أصلاً، وأنت كنت اختبرته فقط بمهمة عملية محدودة، وليس بوضعه في نفس المنصب والمسؤولية.
((فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً))، طريقة جيدة، مع ملاحظة المعايير أن تكون ظاهرة بشكل أو بآخر، أو بأي مستوى، الاختبار أيضاً.
((وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً))
لا تولهم في تلك المسؤوليات والأعمال محاباةً، مجاملةً وميلاً، لسبب صداقة، أو قرابة، أو صهارة، أو علاقة معينة؛ لأنه قريبٌ لك في نسبك، أو لأنه صديقٌ لك، أو لأن بينكما علاقة مادية معينة، أو مصالح معينة مشتركة، كل ما كان من قبيل الميل والمجاملة فقط، ليس بالاستناد إلى الكفاءة العملية فلا يجوز.
((وَأَثَرَةً)): إيثاراً له على غيره لمثل هذه الاعتبارات: اعتبارات مصالح، أو قرابة، أو صداقة أو نحو ذلك، وهذه مسألة خطيرة جدًّا، عندما يتصور الناس مثلاً أن المسؤولية في المناصب والأعمال المهمة في الدولة، هي تعود إلى إعطاء الإنسان لها وكأنها مقابل إما استحقاقات، أو كأن الشخص نفسه يمتلك تلك المسؤولية امتلاكاً، كأنها ملكه، فيتصور أن له أن يعين من يشاء ويريد بحسب مزاجه الشخصي ورغباته الشخصية، بدون النظر إلى الكفاءة الفعلية المؤكدة، مسألة خطيرة جدًّا، أو يتصور الناس مثلاً أن المسؤوليات والمناصب يلحظ فيها المكافأة في أمور معينة، أو اعتبارات معينة، أو مجرد الولاء، مثلاً: يريد أن يعين شخصاً في مسؤولية معينة، وهو لا يمتلك أي كفاءة نهائياً، لكنه يطمئن إلى ولائه فقط، هذا الاعتبار لوحده لا يكفي ولا يجوز فقط أن يكون هو لوحده المعتبر والمعتمد، مسألة خطيرة وحساسة؛ لأن البعض من الناس مثلاً يظنون أنهم يستحقون المناصب والمسؤوليات المعينة، بالاستناد مثلاً إلى اعتبارات غير الكفاءة، إما لأنهم أصحاب دور معين، أو عطاء معين، أو إسهام معين، فيتصورون أن ذلك كافٍ لأن يعطوا تلك المسؤوليات، وهذه مشكلة خطيرة جدًّا؛ لأن لها تأثيرات سيئة.
مثلاً: البعض في مراحل التصعيد الثوري يأتي فيما بعد ليقول: [أريد منصب كذا، أو وظيفة كذا]، لماذا؟ هو لا يمتلك الكفاءة لنفس ذلك المنصب، أو لتلك المسؤولية، قال: [لأنني قدمت جملاً، أو أسهمت بتبيع، أو أحضرت قافلة، أو شاركت في مظاهرة، أو حضرت في مخيم اعتصام، أو…]، أي شيء من هذا القبيل، البعض مثلاً يأتي ولديه قائمة، قبيلة محدودة فقط مثلاً أسهمت إسهاماً جيداً، يأتي الشيخ مثلاً ليقول: [أريد- هذه قائمة- خمسة وعشرين مديراً، أو كذا كذا وزراء، أو كذا كذا محافظين، أو كذا كذا مسؤولين، هؤلاء أريد أن يكونوا كذا، وهؤلاء أريد أن يكونوا كذا، وهؤلاء…]، لماذا؟ قال: [هؤلاء فعلوا، وهؤلاء عملوا، وهؤلاء قدموا]، هذا ليس كافٍ، لابدَّ من النظر إلى مسألة الكفاءة، الكفاءة العملية، الناس مثلاً حتى في الثورة عندما ثاروا لديهم مثلاً مطالب معينة، لديهم اعتبارات معينة؛ حتى يكونوا أوفياء لمبادئهم الثورية، وأوفياء لأهدافهم المعلنة، لابدَّ أن يأخذوا بعين الاعتبار هم ذلك، ثم يلحظون الكفاءة التي تعود إلى المعايير الصحيحة.
أحياناً بعض المعايير يمكن أن تصحح، بعض المعايير شكلية، ليست ذات أهمية حقيقية، شكلية، يمكن أن يتجاوزها الآخرون، والمتسلقون، والمتحيلون، المحتالون يمكن أن يتسلقوا من خلالها المعايير الشكلية، لكن المعايير المهمة الأساسية، التي يبنى عليها النجاح، وتعتبر ضروريةً للنجاح في العمل.
((وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ))
المحاباة: التولية والتعيين في المسؤوليات المهمة لمجرد المجاملة، والاعتبارات غير الصحيحة، الميل، العلاقة المعينة، وكذلك الأثَرَة، هذا يجمع فروع الجور والخيانة، يتفرع عنه الكثير من المفاسد، والمظالم، والمخاطر، والتي تؤثر سلباً على الناس في حياتهم؛ لأن المسؤولية ليست عبارة عن استحقاق شخصي وملك شخصي للإنسان، يتصرف فيها وفق مزاجه ورغباته وأهوائه، المسؤولية تتعلق بالناس، هي مسؤولية أولاً أمام الله “سبحانه وتعالى”، ما بينك وبين الله “جلَّ شأنه”، وهي عمل لخدمة الناس، هي تتعلق بهم أصلاً، فإذا لم يلاحظ الإنسان ذلك، لم يأخذ بعين الاعتبار ذلك، وتصرف وفق هوى نفسه، ومزاجه، ورغباته، وعلاقاته، وأهوائه، ومنطلقاته الشخصية، ومكاسبه الشخصية، فهذا سينتج عنه الكثير من المفاسد والمظالم:
– من بينها: إقصاء ذوي الكفاءة.
– من بينها: تضييع الأمة، تضييع الناس، تضييع الأعمال.
بدلاً من أن تكون العملية الإدارية والأداء للمسؤولية في ذلك الموقع المعين لخدمة الناس، يؤدي الهدف منه، ليحقق نتائج معينة، ليصلح حياة الناس، ليحل مشاكلهم، لينفعهم في إطار نفس المسؤولية وطبيعتها، وعلاقتها بالمجتمع؛ يتحول إلى مصدر للضرر، مصدر للخراب، للتضييع، للهدر، فتكون النتيجة هي الضرر الكبير في واقع الحياة، وهذا ما يحصل في كثيرٍ من البلدان العربية، وفي كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي، خلل كبير جدًّا في إدارة شؤون المجتمع؛ لأن المسؤوليات هي لإدارة شؤون المجتمع، عندما يحصل الخلل في شؤون المجتمع، تنعكس آثاره على كل حياة الناس: على وضعهم المعيشي، على وضعهم الاقتصادي، على وضعهم الأمني، على وضعهم حتى على مستوى الجانب الديني والقيم الدينية، تضيع القيم من أوساط المجتمع، تضعف الأمة، تنهار، لا تقوى، لا تبني حضارة، لا تنهض، تعيش حالة البؤس والتخلف، تتفاقم في داخلها المشاكل في كل المجالات، تكبر المشاكل الأمنية؛ لأن الأداء العملي المختل ينتج المشاكل، لا يصلح، يفسد ويخرب وينتج المشاكل، فتتفاقم المشاكل الأمنية، المشاكل الاجتماعية، المشاكل الاقتصادية، يكبر البؤس، يضيع المجتمع، يضيع الناس، والذي يتأمل في واقع الأمة، يلحظ الضياع الكبير لأمتنا العربية والإسلامية في أكثر البلدان، تتفاوت المسألة من بلد إلى آخر، لكن يلحظ الإنسان المشكلة الكبيرة، التي تعود إلى جوانب متعددة في هذه المسألة، ومنها هذا الجانب: سوء الاختيار لمسؤولين وموظفين غير كفؤين نهائياً لأداء هذه المسؤوليات، ومع ذلك أتت الخيانة، الولاء لأعداء الأمة، تنفيذ أجندة الأعداء؛ للإضرار بالأمة عمداً، لتعطيل نهضة الأمة، وهكذا، تمثل هذه مشكلة كبيرة جدًّا.
((فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ))، فينتج عنهما: الكثير من المفاسد، المظالم، الضياع للأمة، التفاقم للمشاكل في حياتها، الخراب في كل شيء، الضرر في كل شيء، انعدام الاستقرار، تعطل البناء الحضاري وغير ذلك، مع إقصاء ذوي الكفاءة، الذين كان يمكن أن يكونوا عامل نهضة للأمة ونجاح في أداء المسؤولية.
((وَالْخِيَانَةِ))، يعتبر ذلك خيانةً لله “سبحانه وتعالى”؛ لأنك مسؤولٌ أولاً أمام الله “جلَّ شأنه”، إذا تعمدت أن تأتي بشخص ليس لديه أي كفاءة عملية على الإطلاق، وإنما لمجرد علاقته بك أو مصالحك المشتركة معه أو علاقات معينة أو ارتباطات معينة فقط، هذه خيانة لله، وخيانة للأمة، وخيانة للناس.
((فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ))، وخيانة للحقوق، التي ستضيع نتيجةً لذلك، ما ينتج عن ذلك من فساد مالي وإداري، وخلل، ومظالم…إلخ.
فهذا تحذير كبير من الاختيار بناءً على المحاباة، وبناءً على الأثرة، إذا وصل الإنسان إلى مسؤولية معينة، ثم أراد أن يوظف كل أقاربه، كل أصدقائه، كل أصحابه، كل… لماذا؟ لتلك الروابط وتلك العلاقات، دون النظر إلى مسألة الكفاءة، هذه مسألة خطيرة وسلبية كبيرة جدًّا.
((وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ))،
(تَوَخَّ) يعني: اطلب وتحرَّ منهم من لهم تجربة عملية، ليس جديداً على الواقع العملي بكله، أتيت به من غير أي تجربة عملية سابقة، التجربة العملية لا يشترط أن تكون فقط على مستوى المنصب نفسه، مهام عملية، أو كذلك مستويات عملية معينة سابقة، وما شاكل ذلك.
(وَالْحَيَاءِ)، مع التجربة الاعتبار الأخلاقي المهم، لا يكفي فقط جانب التجربة، أو جانب المهنة مثلاً، أو التخصص، أو الدراسة، كثيرٌ من هذا النوع الذين يفقدون الكفاءة الأخلاقية، لا تستفيد الأمة لا من تجربتهم، ولا من خبرتهم، ولا من دراستهم؛ إنما يكونون أكثر ضرراً؛ لأنهم أكثر قدرة على التحيل، والتلاعب، والتغطية على ألاعيبهم، جانب الأخلاق معيارٌ مهمٌ جدًّا، معيارٌ أساسي إلى جانب التجربة، إلى جانب الخبرة، معيارٌ ضروري.
ولهذا عندما قال: من ((أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ))، (وَالْحَيَاءِ) الإنسان فيه حياء؛ لأن من لا حياء له، لا دين له، ولا أمانة له، ولا وفاء له، سيكون جريئاً على الخيانة، جريئاً على الفساد، جريئاً على الإخلال بمسؤولياته، على التقصير، على الإهمال، هو لا يستحي، لا يستحي من الله، ولا يستحيي من الناس، فليس متحرجاً من الإقدام على ما يسوء، على فساد، أو على خيانة، أو على مستوى اختلاس مالي، أو تقصير، أو إهمال، فالحياء معيار مهم.
((مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ))، يعني: الذين يتربون على مكارم الأخلاق، وعلى القيم، الناس الذين لديهم أصالة في التربية على مكارم الأخلاق والقيم، هذه الأصالة التي تطمئنك أنه لا يتصنع أمامك، ليس إنساناً لديه رصيد سيء جدًّا، لا أخلاقي، لا قيمي، لديهم رصيد كبير من النصب والاحتيال، والفساد، والسوابق السيئة، ثم بدأ يتصنع؛ لأنه أراد الوظيفة، أو المنصب، وبدأ يتظاهر بالصلاح، فقلت: [أهلاً وسهلاً، هذا أصبح رجلاً صالحاً من قبل أمس، أو من أمس]، هو حديث عهد بالتظاهر بالصلاح، قلت: [هذا يصلح محافظ، هذا يصلح مدير، هذا يصلح كذا، هذا يصلح…].
لابدَّ أن يكون هناك عناية بالتربية، ليس فقط على مستوى البيوتات، هذا الدور مهم أن يحسب حسابه، في المدارس، في الجامعات، في كل عمليات التأهيل، أن يكون هناك اهتمام بالجانب التربوي، التربية على الأمانة، التربية على الوفاء، التربية على مكارم الأخلاق، التربية على الصدق، التربية حتى في الأداء العملي في حياة الناس، حتى في المجتمع، حتى في المجتمع أن تنمَّى هذه القيم، أن ترسَّخ هذه القيم داخل المجتمع، سواءً في الريف، في الحضر، في المدينة، في القبيلة، في سائر المجتمع، تنمَّى هذه القيم، هذه التربية، هي قيم أساسية، على المستوى الديني مكارم الأخلاق أساسيةٌ في الدين، هي جزءٌ أساسيٌ من الدين نفسه، من الالتزام الإيماني نفسه، تأتي المواصفات التي يصف الله بها عباده المؤمنين، بالصبر، بالصدق، بالوفاء، بالقيم بمختلف أنواعها، القيم العظيمة.
فمن تربى على القيم، القيم العظيمة ومكارم الأخلاق، مع اكتسابه التجربة في الواقع العملي، يمكن أن يؤتمن في مسؤوليات حساسة، في أعمال مهمة، على مال هو مال الأمة، على مسؤوليات فيها صلاحيات تتعلق بالأمة، حتى يكون محل ثقة أنه لن يوظف تلك الإمكانات، تلك الأموال، تلك الصلاحيات، التي هي للأمة، وفي خدمة الأمة، في خدمة الناس، للمصالح الشخصية، والمكاسب الشخصية، والاستغلال الشخصي، والمكايدات، والانتقام من الآخرين، استغلالاً لموقعه، ومسؤوليته، وإمكانياته، وصلاحياته، مسألة مهمة جدًّا.
((مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ))، ممن نشأ وتربى، وله رصيد أخلاقي وقيمي، وسوابق حسنة، أعمال مشرفة، إسهامات مشرفة، تجلى من خلاله وبرز ما هو عليه، من الإحساس بالمسؤولية، من الكفاءة للمسؤولية، في الجانب الأخلاقي والتجربة العملية.
((فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً، وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً))
ممن يمتلك مكارم الأخلاق، وتربى عليها، وهو يلتزم بها، وهي ظاهرةٌ في سلوكه، في عمله، في أدائه لمسؤولياته، فيما ينفذه من مهام، وكذلك هو صحيح العرض، نقي، ليس ملوثاً بالأعمال السيئة، بالتصرفات والمظالم والمفاسد المخزية، إضافةً إلى أنه ممن يستحي، يحرص على عرضه، يتورع عمَّا يشينه، عمَّا يخزيه، عمَّا يسوء إليه، ليس متهتكاً مستهتراً، لا يبالي بما يفعل مما يسيء إليه، يسيء إلى سمعته، إلى عرضه، إلى كرامته، مما يخزيه، مما هو شينٌ عليه؛ لأن النوع المتهتك المستهتر الذي لا يبالي بعرضه ولا شرفه، ولا كرامته، سيكون جريئاً على الخيانة، على الفساد، على الاستغلال السيء للمنصب والوظيفة.
((وَأَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً))
الإنسان الذي تربى على مكارم الأخلاق، وعلى تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وعلى الأمانة، وعلى الوفاء، يهمه عرضه وكرامته، ويستحيي، هو أقل في المطامع إشرافاً، ليس متطلعاً إلى الأطماع، ليس من النوع المستهتر الذي هو جريء بسبب طمعه على أن يسرق من مال الأمة، من حق الأمة، من المال العام، أن يتحول إلى لص، أن يكون دنيئاً لدرجة الخيانة، أو يدخل في صفقات لخيانة الأمة بشكل أو بآخر، فالإنسان الذي تربى على مكارم الأخلاق، وترسَّخت فيه، ترسَّخت فيه، أصبح حتى بطبعه عزيز النفس، كريم النفس، متنزهاً عن الخيانة، عن السرقة، عن كل ما فيه دناءة، تسيء إلى دينه، إلى شرفه، إلى كرامته، إلى عرضه، هو حريص على عرضه، وفعلاً البعض من الناس عرضه أغلى عنده من الدنيا وما فيها، لو كان سيعطى الدنيا بكل ما فيها في مقابل أن يتحول إلى سارق، لص، خائن للأمة، يسرق المال العام، يسرق مال الله، مال الأمة، لو كان سيحصل على الدنيا بكلها من وراء ذلك، لما أقدم على ذلك؛ لأنه عزيز النفس، كريم النفس، عرضه غالٍ عنده، لا يريد أن يلوث نفسه، أن يشوه نفسه بما يخزيه، القيم عنده غالية.
((وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً))
فهم الأكثر ائتماناً، هذا النوع من المتربين على مكارم الأخلاق، وعلى التقوى، وعلى الاستقامة، هم الأكثر أمانةً على المسؤوليات والمهام العملية، والمناصب المهمة لخدمة الأمة؛ لأنهم يدركون العواقب السيئة للفساد، وللإهمال، وللنصب، وللاختلاس للحق العام، على المستوى المالي، وعلى المستوى العملي يدركون عواقب الأمور عليهم هم، على المسؤولية نفسها، على الدولة مثلاً، وعلى واقع الأمة، فلذلك هم أكثر إحساساً بالمسؤولية، وإدراكاً لأهمية المسؤولية، واستيعاباً للعواقب السيئة، للتفريط، والإهمال، والتضييع، والاختلاس، والتسيُّب في العمل، كل الأعمال السيئة، أو الظواهر السلبية في أداء المسؤولية، هم يدركون عواقبها السيئة، وهم ممن يستشعر المسؤولية، وهو حريص على النجاح في المسؤولية، وهو حريص على تحقيق الأهداف المهمة، المهمة بالنسبة إليه، والمهمة بالنسبة للأمة، والمهمة فيما يترتب عليها من نتائج مهمة، أو عواقب سيئة بالتفريط والإهمال، أو بالخيانة وما شابه ذلك.
((ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ))
يعني: اهتم أن يكون لهم مرتبات مجزية، تكفيهم لاحتياجاتهم الضرورية، طبعاً هذا مرتبط أيضاً بما سيأتي عن الجانب المالي، وعن الخراج، وعن الجانب الاقتصادي؛ لأن المسؤوليات مترابطة.
فمستوى ما يمكن أن يقدَّم لهم بحسب ما هو متوفر بالتأكيد، ((أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ)) بحسب ما هو متوفر، وبالذات عندما يكون الناس في مراحل بناء، مرحلة بداية، مرحلة ظروف عصيبة، من المهم بذل كل جهد، في العناية باحتياجاتهم الضرورية، مع أن يكون الكل متفهمين لطبيعة الظروف، صابرين في المراحل التي تحتاج إلى صبر.
((فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ، وَغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ))
هذا يساعدهم على الاستقامة والصلاح؛ لأن الفقر المدقع والحاجة الملحة قد تمثل عامل ضغط يؤثر على البعض حتى على مستوى القيم والأخلاق، وحتى على مستوى الالتزام الإيماني، ((كاد الفقر أن يكون كفراً))، فتكون المسألة بالنظر إلى الاحتياج الضروري، بحسب الحالات، بحسب الظروف، بحسب الإمكانات المتوفرة، هذا ((قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ))، وكذلك ((وَغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ))، لا يحتاج إلى استغلال مال العمل، ومال النفقات العملية، والمال المخصص لمجالات معينة، أو لمشاريع معينة.
((وَحُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ))
(حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ) سواءً إن خالفوا في الأمر فيما يتعلق بخطة العمل، في التوجيهات العملية، التي ينبغي أن توظَّف لها الإمكانات، أو نقصوا في أداء الأمانة، وخانوا في أداء الأمانة، حجةٌ عليهم كبيرة.
((ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ))
بعد ملاحظة مسألة القيام والمعايير، مسألة المعايير في اختيار العمال والمسؤولين، الموظفين الأساسيين، وبعد مسألة رعايتهم المادية، تأتي مسالة التفقد لأعمالهم، وهذه من أهم عوامل النجاح، وتصويب الأعمال، وتلافي الأخطاء، مسألة التفقد للأعمال، أن يكون هناك نشاط وآليات عمل، تساعد على تحقيق ذلك، في التفقد لأعمالهم، وتقييم أعمالهم، لمعرفة مدى اهتمامهم، مدى نجاحهم، مدى إصابتهم إلى غير ذلك، أو إذا كان هناك جوانب فيها نقص، أو تقصير، أو فيها خطأ، أو خلل، تتم المبادرة لعملية تصويب مسار العمل، فالتفقد مسألة أساسية جدًّا، ويجب أن يكون هناك تفهم لمسألة التفقد؛ لأن البعض ينزعج من ذلك، إذا كان على رأس عمل معين، ثم لاحظ هناك اهتمام بتقييم عمله، وتفقد عمله، يستاء من ذلك، وينزعج من ذلك، لا مبرر للاستياء، لا مبرر للانزعاج، هذه مسألة ضرورية لنجاح الأعمال، والأعمال لا تفصَّل أساساً بمعيار أهواء الناس، ورغباتهم الشخصية، واعتباراتهم الشخصية، يقول: [أنا كفؤ، وأنا شخص مهم، وأنا شخص امتلك الجدارة الكافية، وأنا، وأنا… هل أنتم لا تثقون بي؟ هل أنتم تشكون بي؟ هل أنتم كذا؟ هل…]، لا مبرر لذلك؛ لأن المسألة مسألة لم تفصَّل عليك شخصياً، وليست ملكاً شخصياً لك، أنت تأتي لأداء مسؤولياتك، ثم أنت من سيتغير في يومٍ من الأيام، أو يتوفى، أو ينتقل إلى مهمة عملية أخرى، أكبر، أو أصغر، أو غير ذلك، هذه مسألة تعود إلى واقع المسؤولية بين الناس وبين الله، وأمام الأمة، أمام عباد الله أيضاً.
فلذلك العوامل التي هي عوامل للنجاح، عوامل وأسس تساعد على الأداء الصحيح، على تصويب الأعمال، على تلافي الأخطاء، على السعي إلى تفادي الكثير من الخلل الرهيب الذي يحصل نتيجة الإهمال والغفلة، وترك الناس يعملون كيفما أرادوا وشاءوا، أو يكتفى فقط بتقاريرهم هم.
((ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ))، فالتفقد مسألة أساسية، وعامل مهم، وحافز ودافع للاهتمام والنجاح، إذا أصبحت مسألة قائمة في الواقع، لا مناص منها، ستكون عاملاً مساعداً لمن هو في موقع المسؤولية، أن يهتم أكثر، وأن يجد أكثر، وأن يحرص على النجاح أكثر.
((وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ))
إضافةً إلى عملية التفقد والتقييم يكون هناك أيضاً رقابة، الرقابة في هذا الزمن هناك رقابة ظاهرة، وأجهزة عادةً ما تكون في الدولة، مهمتها رقابية، ولكن لابدَّ أيضاً أن يكون هناك رقابةٌ سرية، الرقابة السرية هي أكثر فاعليةً وتأثيراً حتى من الرقابة الظاهرة والعلنية، الرقابة السرية على أداء مسؤولياتهم، على أعمالهم، هذه مسألة مهمة جدًّا، ولهذا قال:
((وَابْعَثِ الْعُيُونَ))، يعني: الرقباء، ابعث المراقبين، من تكلفهم بهذه المهمة الرقابية.
((مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ)): لابدَّ أن يكون من يعتمد عليهم في الأعمال الرقابية من أهل أهل الصدق؛ حتى لا يكذبوا، حتى لا ينقلون أشياء مكذوبة، غير صحيحة، أو يعتمدون على أشياء غير صحيحة من الأساس، على آخرين، يكون ممن يحرص على أن يتحرى، أن يتأكد وأن يكون صادقاً في نقله.
((وَالْوَفَاءِ)): بحيث يكون وفياً، لا يستمال، يذهب إلى ذلك المسؤول، ويقول له: [أنا مكلفٌ بالرقابة عليك، لكن ما يهمك ادفع شيء معين وأنا سأنقل تقريراً رائعاً عنك]، يكون وفياً في أداء مهمته الرقابية بشكلٍ صحيح، وسليم، ومؤكد، وممن لهم معرفة بالأعمال نفسها، والمهام، والمسؤوليات؛ حتى لا ينقلوا بالاشتباه، بالغلط، بالخطأ، ليس عندهم نظرة صحيحة إلى العمل نفسه.
((مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ، حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ، وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ))
المراقبة لهم، والتحري عن أدائهم لأعمالهم بهذه الطريقة السرية، هو عاملٌ مساعدٌ لهم على أداء مسؤولياتهم بشكلٍ صحيح، وبالأمانة، وبالرفق بالرعية، الرفق بالناس، الرفق بمن لهم ارتباط بمسؤولياتهم، بمن هم في نطاق مسؤولياتهم، بمن تتوجه تلك المسؤوليات إليهم، لخدمتهم، للعناية بشأنهم، لإدارة شؤونهم؛ لأن هذا جانبٌ أساسيٌ (الرفق) يعني: حسن التعامل، الاهتمام بالناس بطريقة ليست عنيفة، ليست غليظة، ليست خشنة، أداء المسؤولية على الوجه الصحيح، مع حسن التعامل مع الناس.
البعض مثلاً من المسؤولين قد يكون من أهل الاختصاص والمهنة، وقد يكون جاداً في أداء مسؤولياته، ولكنه فضٌ غليظ، خشن، طريقته في أداء المسؤولية غليظة وفضة، سيء الخلق، سيء التعامل مع الناس، هذا منفِّر، يصعب على الناس التعامل معه، يصعب عليهم التعامل معه، ولهذا تأثير مباشر سلبي وسيء على أداء المسؤولية، قد يفضِّل البعض من الناس ألَّا يتعامل معه أصلاً؛ لفظاظته، لسوء خلقه.
فالرفق نفسه مطلوب في أداء المسؤولية، حسن التعامل أداء المسؤولية بشكلٍ راقٍ، بحسن تعامل، وهذه مسألة مهمة، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، مهما كانت الكفاءة فيما يتعلق بالمهنة والاختصاص، إذا لم يقترن معها الرفق وحسن التعامل، فلن يُستَفاد منها على الوجه الصحيح، هذا الإنسان الفظ، الغليظ، السيئ الخلق، السيئ في تعامله، قد يظلم، قد يؤثر سلباً في أداء تلك المسؤولية بفظاظته، وغلظته، وسوء خلقه، فهذا معيار مهم جدًّا.
فذلك يكون مما يلحظ في مسألة الرقابة، في مسألة الاختبار، كيف هذا المسؤول في أمانته، في أدائه مسؤولياته بالشكل الصحيح، في أخلاقه، في طريقته في التعامل، في رفقه بالناس، في حسن تعامله معهم، والرقابة السرية ضروريةٌ جدًّا، وهي أكثر فاعليةً من الرقابة الظاهرة والعلنية؛ لأن الكل سيلحظون، وبالذات عندما تأتي المحاسبة، عندما تأتي المتابعة، عندما يأتي التصويب، من غير كشف ذلك الرقيب، من غير الإخْبَار به، لكن عندما يلحظ ذلك المسؤول أنك تتابعه نتيجة خلل معين، أو سوء تصرف، أو سوء معاملة، [أنت أسأت المعاملة مع فلان، أنت فعلت كذا، أنت تصرفت بكذا].
أمَّا عندما تصل المسألة إلى مسألة خيانة، أو سلوكاً سلبياً مستمراً، تأتي الحالات التي لا علاج لها إلَّا التأديب، أو التغيير، حالات تقتضي التأديب، وحالات تقتضي التغيير، والعزل عن ذلك الموقع، عن تلك المسؤولية، عن ذلك المنصب، فالرقابة السرية التي لا يدري المسؤول متى، وأين، ومن، من يراقبه؟ كيف يراقبه؟ كيف يفعل؟ متى؟ في أي وقت؟ ستكون عاملاً مساعداً على الاستقامة، وعلى أداء المسؤولية بشكلٍ أفضل.
((وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ))
((وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ)): كن حذراً متنبهاً لهم، لأدائهم، لأعمالهم، لا تغفل عنهم، وتتجاهل أداءهم، وتتركهم ليتصرفوا كيفما يشاؤون ويريدون، كن منتبهاً، ومهتماً، ومراقباً.
((فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً))
لاحظ في قوله: ((وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ))، فيما يتعلق بالمسؤوليات العامة، المناصب في الدولة، المسؤوليات على رقاب الأمة، هذه مسائل حسَّاسة، مسائل مهمة، مسائل خطيرة، يعني: لا يكفي فيها مجرد مثلاً المعرفة السابقة، أو الثقة المبنية على حسن الظن، والسلوك الإيجابي المعروف عن الشخص؛ لأن الكثير من الناس يمكن أن يتغيروا، يعني: البعض مثلاً من المسؤولين قد يكون ما قبل أن يصل إلى تلك المسؤولية، أو في بداية ما وصل، أو في مراحل معينة من أدائه للمسؤولية، رجلاً صالحاً، كان معروفاً بالصلاح، كان ظاهر الصلاح، كان ممن يمكن أن يؤمل فيه أن يعتمد عليه، ولكن الكثير من الناس يمكن أن يتغيروا، البعض يفسدوا بعد ظاهر الصلاح، البعض يتغير سلباً في سلوكه، في أدائه للمسؤولية، مثلاً: البعض يصاب بالغرور، والعجب، والكبر، تأتي آفات كثيرة تدخل إلى البعض في أداء مسؤولياتهم، فيمكن أن يتغيروا، ولذلك عندما يقول: ((وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ))، لا تكتفي بما كان هناك من معرفة سابقة، من اطمئنان سابق؛ لأن البعض يمكن أن يتغيروا، البعض مثلاً لم يواجه واقعاً في السابق مثل ذلك الواقع، فيما يتعلق بالإمكانات، أو الإغراءات، أو المقام المعنوي، أو الظروف المعينة، فالتحفُّظ مسألة مهمة، أن يكون هناك انتباه، تعاهد، اهتمام بتقييم العمل، ملاحظة للواقع العملي.
((وَتَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ، فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ، اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً، فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ، وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ))
مع كل ما سبق من احتياطات، من معايير، من اهتمام، من رعاية، من تفقد، تأتي الرقابة، فإذا لوحظ من خلال هذه الرقابة، وبطريقة تم فيها التأكد، والتبين، والتحري، فاتضح أنَّ أحداً من أولئك المسؤولين ((بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ))، خان الأمة، خانها إمَّا في المال، وأكثر ما تأتي الخيانة في المال والإمكانات، أو الخيانة لصالح العدو، أو الخيانة في أداء المسؤولية، من خلال مثلاً الاستغلال للمنصب للممارسات الظالمة، وارتكاب المفاسد والجرائم وغير ذلك مما يمثل خيانةً، فإذا تم التأكد؛ لأنه هنا يقول: ((اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ))، يعني: لا تكتفي مثلاً بأول خبر؛ لأنه يمكن أن يكون هناك كذب، أو يمكن أن يكون هناك اشتباه، أو أن يكون هناك خطأ، أو أن يكون هناك أي شيء آخر يعني، لكن عندما تتأكد من مصادر موثوقة متعددة، حتى أصبحت متأكداً من ذلك، فيبقى أن تتخذ الإجراءات.
والإجراءات عادةً ما تحدد الإجراءات، ونوعية الإجراءات، مثلاً: ما الذي يجري فيه السجن، وكم مثلاً، والتشهير، وأي إجراءات أخرى، إجراءات تحدد أصلاً، يعني: هناك آليات، هناك نظم، هناك يعني ما ينظم مستوى هذا الإجراءات في مقابل الخيانة، فتفعيل مبدأ الثواب والعقاب تجاه المسؤولين مسألة مهمة جدًّا.
((وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ، ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ))؛ لأنه يستحق الإهانة، وأن يعرف الناس بخيانته وبعقوبته.
((وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ))؛ لكي لا يعتمد عليه فيما بعد، في أي مسؤوليةٍ مهمة، وهذا أمرٌ مهمٌ جدًّا، أمرٌ مهمٌ جدًّا، عندما يكون الواقع العام في أداء المسؤوليات والمهام العملية واقعاً مهملاً، قائماً على التسيب، وعدم المحاسبة؛ يتجرأ الكثير على الفساد، ويتجرأ الكثير على الاستغلال السيئ، ويتجرأ الكثير على الإهمال والتفريط في أداء المسؤولية؛ ولذلك عندما تأتي العقوبة، هي أولاً لإقامة العدل؛ لأن هذا من العدل ومن الحق أن يُعاقَب، في مقابل خيانته للأمة، وهي كذلك زجر وردع للآخرين، عندما يشاهدوا أنه عوقب، وأنه أخذ بخيانته، وبما فعل، فهي مسألة مهمة جدًّا.
هذا درسٌ مهمٌ جدًّا؛ لأن هذا الجانب من أهم الجوانب الضرورية لإصلاح العمل الحكومي، العمل في الدولة، العمل في خدمة المجتمع، والذي يُبنَى عليه النجاح فيما بعد ذلك، فيما يتعلق ببناء الحضارة، في استقرار حياة الناس، في حسن إدارة شؤونهم، في إصلاح واقعهم.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛