[24/ فبراير/2021]
صنعاء – سبأ : مركز البحوث والمعلومات: زيد المحبشي
“الامام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مُفردة، لم ير الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل، لا قديماً ولا حديثاً”.
بهذه الكلمات البسيطة اختصر الكاتب “شبلي شميل” حكاية الامام علي وشخصيته، إنه وليد الكعبة وشهيد المحراب، رجلٌ مهما حاول المرء الإلمام بصفاته وسجاياه فلن يستطيع ذلك، ولا عجب فقد كان سلام الله عليه “أُمةٌ في رجل”.
وما أثير حول شخصيته في أوساط المسلمين خلال الـ 14 قرناً الماضية، من جدل ولغط وصخب وضجيج وانقسام، لم يُثار حول أي شخصية في التاريخ البشري، وهذا أمرٌ طبيعي لأننا أمام شخصية عظيمة لا تتكرر.
يحتلُ شهر رجب الأصب مكانة مميزة في تاريخ المسلمين، ففيه كان دخول اليمنيين في الإسلام على يد الإمام علي عليه السلام طواعية، وفيه كان مولد سيد الوصيين وابن عم خاتم الأنبياء والمرسلين، إنه شهر الإمام علي بلا منازع، وشهر شعبان شهر النبي، وشهر رمضان شهر الله.
فمن هو هذا الرجل العظيم الذي كان مولده سبباً في ولادة جديدة لليمنيين، بعد قرونٍ من التشتت والتمزق والتناحر؟
وسام الولادة:
والده أبو طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم، فهو سلام الله عليه يلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الأب عند عبدالمطلب، ومن جهة الأم عند هاشم، وهي أول هاشمية وَلدت لهاشمي، وأول امرأة بايعت النبي عندما دعا النساء للمبايعة، وهاجرت الى المدينة وتُوفِيت فيها، وكفّنها النبي بقميصه، واضطجع في لحدها، وقال كما يذكر الإمام يحيى بن الحسين الهاروني في الافادة: “أما قميصي فأمان لها يوم القيامة، وأما اضطجاعي في قبرها فليوسع الله ذلك عليها”.
مولده سلام الله عليه في جوف الكعبة في يوم الجمعة 13 رجب قبل البعثة بـ 10 سنوات وبعد عام الفيل بـ 30 سنة، وقيل لم يولد قبله ولا بعده مولودٌ في الكعبة، وهذا أول تكريم وأول وسام له من الله، ويذكر الزركلي في الأعلام أن مولده عليه السلام سنة 23 قبل الهجرة، وفي تحديد اليوم بالميلادي يذكر الناطق بالحق أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني أنه في يوم 7 أيلول/ سبتمبر، وبحسب سنة الزركلي يكون مولده في العام 600 ميلادي.
يقول الرواة أن أبوطالب عليه السلام خرج يوماً يمشي هوناً، فزوجته فاطمة بنت أسد تتلوى من ألم المخاض، وعندما شاهده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سأله عن السبب، فأخبره بالأمر، فأشار عليه بأخذها الى الكعبة، علّ الله يخفف عنها الألم، وجاءت الى الكعبة تسأل من الله تخفيف الألم وتسهيل الولادة، وما أسرع ما أنجبت وليدها المبارك، فسماه والده “علياً”، وعمّت الفرحة قلب والده وابن عمه محمد الصادق الأمين، ورفعت أمه رأسها الى السماء، تشكر ربها على هذه المكرُمة التي خصّها ووليدها بها.
ومن لطيف ما يُروى أن فاطمة بنت أسد عليها السلام عندما وصلت الى الكعبة فُتح لها الباب، وفي رواية انشق لها الجدار فدخلت الى البيت الحرام ووضعت مولودها، ومكثت داخله ثلاثة أيام، وهذه مكرُمة إلهية، اختص الله بها هذا المولود المبارك دون سائر الناس، لحكمة أرادها الله.
وعن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: إن فاطمة بنت أسد كانت في الطواف، فضربها الطلق، فدخلت الكعبة، فولدت أمير المؤمنين عليه السلام فيها.
وأكد الحاكم أن مولد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في جوف الكعبة من الأخبار المتواترة غير القابلة للتشكيك، وهو كلام ابن الصباغ وغيرهم من رواة ومؤرخي المدرستين، ومنهم من قال أن فاطمة بنت أسد تعلقت بأستار الكعبة فقط، ودعت الله أن يُفرِّج عنها، والصحيح أنها ولدت الإمام علي داخل البيت الحرام، والحديث في هذا مبسوطٌ في كتب المدرستين.
قال نشوان بن سعيد الحميري:
ولدتهُ في حرم الإله وأمنِه .. والبيت حيث فناؤه والمسجدُ
بيضاء طاهرةُ الثياب كريمة .. طابت وطاب وليده والمولدُ
في ليلة غابت نحوس نجومها .. وبدا مع القمر المنير الأسعدُ
ما لف في خرق القوابل مثله .. إلا إبن آمنة النبي محمدُ
وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتيمّن بتلك السنة، وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسميها سنة الخير، وسنة البركة.
وهو ثالث ثلاثة من الموحدين المسلمين بعد النبي وخديجة بنت خويلد، وثاني موحد يدين بدين الإسلام من الرجال.
كنيته سلام الله عليه: أبو الحسن، أبو الحسين، أبو السبطين، أبو الريحانتين، أبو تراب، ولقبه: أمير المؤمنين، إمام المتّقين، قائد الغُرّ المُحجّلين، يعسوب الدين، الأنزع البطين، سيّد الأوصياء، أسد الله الغالب، المرتضى، حيدر.
أنجب سلام الله عليه كما يذكر صاحب الإفادة 20 ولداً، و22 بنتاً، منهم:
الحسن المجتبى، والحسين شهيد كربلاء، والعقيلة زينب الكبرى، وأم كلثوم الكبرى، والمحسن درج صغيراً، أمهم فاطمة بنت رسول الله، تزوجها الإمام علي في نهاية صفر 2 هـ.
محمد أبو القاسم، أمه خولة بنت جعفر/ وقيل خولة بنت حزام بن قيس، من بني حنيفة.
أبو الفضل العباس، وجعفر، وعثمان، وعبدالله، أمهم أم البنين فاطمة بنت حزام بن خالد العامرية الكلابية، من ولد عامر بن صعصعة.
أبو بكر، وعبيدالله، أمهما ليلى بنت مسعود، من ولد خثعم بن أنمار بن نزار.
عمر، ورقية، أمهما أم حبيب الصهباء بنت حبيب بن ربيعة بن بُجير التغلبية، من ولد تغلب بن وائل.
عمر الأصغر، أمه مُصطلقية.
محمد الأوسط، ومحمد الأصغر، وعمر الأوسط على قول بعضهم، والعباس الأصغر، وجعفر الأصغر، لأمهات أولاد شتى.
عبدالرحمن، أمه أُمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله.
يحيى، وعون درجا صغيرين، أمهما أسماء بنت عُميس بن النعمان الخثعمية، من ولد خثعم بن أنمار بن نزار.
والعقب في أولاده لخمسة فقط، هم: الحسن والحسين ومحمد والعباس وعمر.
وفي بناته لأربع، هن: زينب الكبرى، وزينب الصغرى، وأم الحسن، وفاطمة.
وبقية أسماء البنات مبسوطةٌ في كتب التاريخ لمن أراد الاستزادة.
عظمة الحياة:
أخذ النبي الإمام علي من أبيه في سنة القحط، فربَّاه في حجره المطهر، فتخلَّق بأخلاقه، وظهرت فيه آثار بركاته، ولازمه كظله في حله وترحاله منذ أن تفتحت عيناه، واستقى منه كل معاني الطُهر والنقاء والفضيلة والزهد والتقى والورع والنبل والشهامة والكرم والبذل والعطاء والشجاعة والإقدام والتضحية، ونهل منه العلوم بشتى أنواعها، فصار في فترة وجيزة “الغرة الشاذخة” في أعيان زمانه في كل فنون المعرفة، بشهادة معلمه خاتم المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم: “أعلمكم علي”، و”الغرة الشاذخة” في أعيان زمانه في الشجاعة والعدل والزهد والورع وإدارة الدولة والتكتيك العسكري.
وتشرّب سلام الله عليه من مُعلمه ومُربيه تعاليم السماء، حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم فيه: “علي مع القرآن والقرآن مع علي”.
قال العلامة أحمد بن محمد الهادي في كتابه القيّم “التاريخ الإسلامي”: تولى رسول الله إعداد شخصية الإمام علي حتى صار نسخة ثانية له فكراً، وعقيدة، وسُلوكاً، عدا الرسالة وما يتعلق به.
وليس هذا بغريب على باب مدينة علم المصطفى: “والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، إن ربي وهب لي قلباً عقولاً ولساناً صادقاً ناطقاً”، “سلوني عن كتاب الله، فإنه ليس من آية إلا وقد عرفت بليلٍ نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل”.
شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كل معاركه وفتوحاته باستثناء غزوة تبوك، أستخلفه وهو القوي الأمين على المدينة المنورة، وكان رجل المهمات الصعبة في كل تلك المعارك، والفارس الذي لا يُشقُ له غبار.
وبعد رحيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بـ 24 عاماً تمت مبايعته بالخلافة في يوم الجمعة 18 ذي القعدة 35 هـ، وفي هذا اليوم كان غدير خم – الجمعة 18 ذي الحجة 10 هـ – ولهذا الاتفاق شأن عظيم كما يذكر المولى الحُجة مجدالدين المؤيدي.
وفي سنة 36 هـ قاتل الناكثين، وهم أصحاب الجمل طلحة والزبير، وعائشة وأتباعهم، وكان عدد القتلى 30 ألفاً.
وفي سنة 37 هـ قاتل القاسطين – معاوية وأهل الشام ومن معهم – بصفين، وانقضت وقعاته عن 70 ألف قتيل،
منها: ليلة “الهرير” قتل فيها الامام علي عليه السلام 600 شخص، بـ 600 ضربة، مع كل ضربة تكبيرة.
وفي سنة 39 هـ قاتل المارقين، وهم الخوارج بالنهروان.
ووفاته عليه السلام في 21 رمضان 40 هـ، عن 64 عاماً، خاض خلالها أكثر من 60 حرباً، ولم يكن لديه أي مانع من أن يقاتل جيشاً كاملاً، إذا تعدّى هذا الجيش على مظلومٍ واحدٍ حتى يأخذ حقه منهم.
وهكذا انتقل سلام الله عليه من مرحلة الولادة بالحرم الشريف إلى مرحلة الحِراب، ذوداً عن حِياض الدين الخاتم، ليختمها بالشهادة في محراب مسجد الكوفة، فما عسانا قوله عن هذا العظيم في هذه الفسحة، وهو القائل عند مبايعته بالخلافة سنة 35 للهجرة: “والله لا يغيب عنكم رسول الله إلا عينه”، وكفاه من عظيم المجد نزول كرائم القرآن فيه، وإنزال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، له في آية المباهلة بمنزلة نفسه: “قل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم”.
ومن مآثره سلام الله: نهج البلاغة، والصحيفة العلوية.
قالوا عنه:
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول الله من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب.
وقال الخليل بن أحمد الفراهيدي، إن: احتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ، دليل على أنّه إمام الكلّ.
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي: اُنظر إلى الفصاحة كيف تُعطي هذا الرجل قيادها، وتُملِّكه زمامها، فسبحان مَن منح هذا الرجل هذه المزايا النفيسة والخصائص الشريفة، أن يكون غلام من أبناء عرب مكّة لم يُخالط الحُكماء، وخرج أعرف بالحكمة من أفلاطون وأرسطو، ولم يُعاشر أرباب الحِكم الخُلقية، وخرج أعرف بهذا الباب من سقراط، ولم يُرَبّ بين الشجعان، لأنّ أهل مكّة كانوا ذوي تجارة، وخرج أشجع من كلّ بشرٍ مشى على الأرض.
وقال جبران خليل جبران: إنّ علي بن أبي طالب كلام الله الناطق، وقلب الله الواعي، نسبته إلى مَن عداه من الأصحاب شبه المعقول إلى المحسوس، وذاته من شدّة الاقتراب ممسوس في ذات الله.
وقال الإمام محمّد ابن إدريس الشافعي: عجبت لرجل كتم أعداؤه فضائله حسداً، وكتمها مُحِبّوه خوفاً، وخرج ما بين ذين، ما طبق الخافقين.
وقال الدكتور طه حسين: كان الفرق بين علي ومعاوية عظيماً في السيرة والسياسة، فقد كان علي مؤمناً بالخلافة، ويرى أنّ من الحقّ عليه أن يُقيم العدل بأوسع معانيه بين الناس، أمّا معاوية فإنّه لا يجد في ذلك بأساً ولا جُناحاً، فكان الطامعون يجدون عنده ما يريدون، وكان الزاهدون يجدون عند علي ما يُحبّون.
وقال الفخر الرازي: مَن اتّخذ عليّاً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه.
إذن لا غرابة أن تتملّك الدهشة العالم الأزهري المصري “محمود أبو ريه” في كتابه القيم “أضواء على السنة المحمدية”، مما لحق الإمام علي عليه السلام من جفاء وتجاهل وغمط في حياته، على قُرب عهدٍ من رسول الله، ومن قومٍ يُفترض أنهم الأكثرُ معرفةً بحقه ومكانته، ونكتفي هنا بإشارة عابرة لما ضمّنه هذا العالم المنصف في كتابه القيِّم، من ذلك تساؤله في صفحة 249 عن سبب تعمد المشايخ ومن تابعهم من المُحَدِّثة والرواة وكتبة التاريخ تجاهل ذكر اسم الامام علي فيمن قام بجمع القرآن رغم سابقته وأعلميته وأحجيته وإجماع الجميع على أنه أعلم الصحابة بعد رسول الله، وأكثرهم قُرباً منه ومجالسة له، وهذا مثال بسيط لما لحقه سلام الله عليه من ظلم وغمط.
حقاً إن الأمر لعجيب، وما علينا إلا أن نقول كلمة لا نملك غيرها، هي: لك الله يا علي ما أنصفوك في شيئ، لا في حياتك، ولا بعد مماتك!!!.