[03/ يونيو/2020]
عواصم – سبأ: محمد الطويل:
احتلت كورونا المجال العام للمحتوى في كل وسائل الإعلام التقليدية والجديدة، وأصبحنا نعيش في إطار مقولة ” الأرض بتتكلم كورونا …”.
في تحليل كمي وكيفي للأخبار التي بثتها وكالة رويترز في يوم واحد، كانت كورونا قد استحوذت عليها جميعاً وعلى موضوعاتها السياسية والاقتصادية والرياضية والبيئية والمنوعات.
التغطيات الإخبارية والخرائط البرامجية للقنوات الفضائية العالمية والعربية ؛ كـ” بي بي سي” و” السي إن إن” و ” الجزيرة” و ” روسيا اليوم” وغيرها، تمكن إطار ومحدد فيروس كورونا من السيطرة على مسارات البث وأولويات التغطية.
مواقع التواصل الاجتماعي من جهتها، وجدت ضآلتها في فيروس كورونا؛ لتقوم بقصف العقول على مدار “الفولتو ثانية” بمحتوى متعدد يشمل النص والصور والرسومات والجرافيك والفيديوهات الإخبارية والقصصية ، مستغلة في ذلك قربها وإلتصاقها بالأفراد والجمهور من خلال هواتفهم الجوالة التي أصبحت جزءً أساسياً من كيان أي إنسان في القرن الحادي والعشرين.
بعد هذا الضخ المهول والمتواصل من وسائل الإعلام لتغطية أخبار الإصابات والوفيات بفيروس كورونا في العالم وخصوصاً وقت ذروة تفشي الفيروس في الصين وإيطاليا واسبانيا وأمريكا ، تغيرت أولويات الحياة في المجتمعات الإنسانية ، وأصبحت الحياة اليومية للبشر تتحور وفقاً لما تبثه وسائل الإعلام من أخبار وتقارير وقصص وصور ؛ ولكثافة هذه التغطية يشعر المتابع أننا دخلنا في عصر حياتي جديد ، يشبه إلى حدٍ كبير ما حدث للأرض أيام الديناصورات ؛ حيث تساقطت عليها الشهب والنيازك والكويكبات ، محدثة تغيراً كبيراً في طبيعتها ، كما تشير الدراسات الجيولوجية والجغرافية لذلك.
كورونا الحدث الأوحد
يقول الدكتور محمد الأمين موسى، في دراسة علمية بعنوان” محددات تغطية الفضائيات الإخبارية لجائحة كورونا في عصر الرقمنة” نشرها مركز الجزيرة للدراسات:” لقد انتزعت جائحة فيروس كورونا مركز الصدارة ضمن أجندة وسائل الإعلام العالمية من خلال تأثيرها الاستثنائي على كافة دول العالم ، عندما إضطرت عجلة الاقتصاد إلى التباطؤ ، واستحوذت على إهتمام السياسيين ، بل استهدفت بعضهم وحولتهم إلى ضحايا”.
وتشير دراسة الأمين إلى أن جائحة كورونا أصبحت الحدث العالمي الأوحد الذي يتصدر اهتمام وسائل الإعلام التقليدية والجديدة ، ومن ثم اهتمام كافة سكان العالم.
وتضيف الدراسة التي تم تطبيقها على قنوات عالمية وعربية : إن الاهتمام بالأخبار الصحية والأوبئة قبل كورونا كان قليل جدا ، لا يتعد الخبر أو الخبرين في التغطيات الإخبارية اليومية ، ومع ارتفاع الإصابات بفيروس كورونا في العالم ، أصبحت التغطيات وساعات البث كلها تتناول تمظهرات كورونا وتجلياتها على مستوى كل الدول التي اجتاحها الفيروس ، وقامت القنوات الفضائية بإعداد الأخبار والتقارير والنشرات الموجزة والعناوين الخبرية بطريقة لا مثيل لها إلا في تغطية الانتخابات الرئاسية في بعض دول العالم المؤثرة مثل أمريكا ، وإن كانت تغطية جائحة كورونا تتفوق عليها بطول أمد التغطية.
وأوضحت الدراسة أن القنوات الفضائية ركزت على التغطية الشاملة والمستمرة للجائحة باعتبارها حدثاً لا مثيل له يمر به العالم والإعلام المعاصر ، إضافة إلى اعتمادها ما يشبه “حالة الطوارئ الإعلامية” التي تسخر فيها كافة الإمكانيات البشرية والمادية لتغطية الجائحة.
غواية الصورة
تعتبر الصورة الثابتة أو المتحركة (الفيديو) من أهم الأدوات التي يستخدمها الإعلام لسحر وجذب الجماهير ، فالصور كما تقول الدراسات القديمة كانت مصدر غواية للإنسان ، حيث أوضحت مقالة بحثية لاستاذ الفكر الإسلامي فؤاد محمد أن صورة (عجل السامري) أضلت بني إسرائيل وأقدامهم لازالت مبتلة بالماء ، بعد اجتيازهم للبحر مع نبي الله موسى عليه السلام، وكان من حيلة السامري أن جعل ثقب في فم تمثال العجل وثقب آخر في مؤخرته، وهو ما يسمح للهواء بالدخول من الثقبين ؛ وبالتالي يصدر تمثال العجل صوت وكأنه خوار ، دراما صورة العجل شكلت تأثير قوي وطاغي على عقول ناظريه من بني إسرائيل وكانت النتيجة أنهم نسوا رحمة الله بهم والتي أنجتهم من بطش فرعون ، واتجهوا مباشرة للشرك بفعل طغيان وسحر الصورة ، وهذا التأثير لازال هو السلاح الذي تستخدمه كل وسائل الإعلام لبث الترهيب والترغيب في كل العصور والأزمان.
وفي عصرنا الحالي عمدت وسائل الإعلام وخصوصاُ الجديدة إلى تقديم خلطة سحرية تأخذ العقول والألباب تمثلت في مادة إعلامية مكونة من النصوص والصور والرسوم والفيديوهات يتناولها الجمهور في وجبة واحدة ، تجعله مدمن ومربوط بها طوال الوقت.
الغموض والاعتمادية
تشير نظريات الإعلام والاتصال إلى أن قدرة وسائل الاتصال على تحقيق قدر اكبر من التأثير المعرفي والعاطفي والسلوكي يزداد عندما تقوم هذه الوسائل بوظائف نقل المعلومات بشكل مميز ومكثف ، وهذا الاحتمال سوف تزداد قوته في حالة تواجد عدم استقرار بنائي في المجتمع بسبب الصراع والتغيير والخوف.
وتوضح النظرية الشهيرة “الاعتماد على وسائل الاعلام” أن الأفراد يعتمدون على ما تبثه وسائل الإعلام ؛ لتجاوز مشكلة الغموض الناتجة عن تناقص المعلومات وعدم كفايتها لفهم معاني الأحداث أو تحديد التفسيرات الممكنة والصحيحة لهذه الأحداث ، وهذا ما يمكن وسائل الإعلام من تشكيل الاتجاهات حيث تقوم هذه الوسائل بدفع غير محدود للآراء والموضوعات والشخصيات التي تثير المتلقيين للاهتمام بها ، وخاصة في أحوال الأزمات والجوائح والكوارث والحروب.
ويذكر منظروا هذه النظرية إن التعرض لمشاهد الرعب والهلع وحجم الإصابات الكبيرة التي تخلفها الأزمات والكوارث ، يصيب الفرد المتلقي بالخوف والقلق والرعب من الوقوع في هذه الأعمال ، أو أن يكون ضحية لها ، وهذا ما حدث مع التغطية الإعلامية لجائحة كورونا والتي ركزت على حجم الإصابات المرتفعة وسرعة اجتياح الفيروس ، وكذلك حجم الوفيات والتأثيرات الاقتصادية التي سببها فيروس كورونا في الدول المصابة به ، كل ذلك أثار الرعب والخوف لدى متابعي وسائل الإعلام من أن يقعوا ضحية لهذا الفيروس الغامض في التشخيص والعلاج.
وتقول الدراسات والأبحاث التي طبقت هذه النظرية: إن الجماهير تعتمد على وسائل الإعلام لاستقاء المعلومات والأخبار من أجل تكوين مداركهم إزاء ما يحدث في العالم من الأزمات والصراعات والاضطرابات والأوبئة والكوارث.
وتضيف الأبحاث ، ان وسائل الإعلام تستغل هذه الأحداث بالتغطيات الكثيفة والموسعة لمواكبة حاجات الجمهور للمعلومات والأخبار وبالتالي يصبح الأفراد المتلقيين مرتبطين ارتباطاً كلياً بما تبثه تلك الوسائل ، وجاءت وسائل الإعلام الجديدة وميزاتها الاتصالية المتمثلة في الفورية والتحديث المستمر على رأس الثانية وكذلك سهولة امتلاكها وإدارتها ، وأخذت جموع المتابعين ؛ لتخلق لهم واقع افتراضي آخر ، تقوم هي برسم الحياة داخله ، بعيداً عما يجري في الواقع الحقيقي.