[08/ مارس/2020]
صنعاء – سبأ : أنس القاضي
مِن ساحة مواجهة قوى العدوان، جاء السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بمشروع «الهوية الإيمانية» كدعوة عملية في إطار مشروع حرية واستقلال ونهضة يحمله أنصار الله، ومعهم أحرار اليمن.
وردت الهوية الإيمانية كأحد عناوين محاضرات الشهيد السيد حسين بدر الدين الحوثي، وفي مواضع مختلفة من محاضراته، وبناءً على هذا الإرث الثقافي القرآني الذي خلده الشهيد القائد حسين الحوثي، ومن ذات النبع، جاء السيد القائد بهذا المشروع وبهذه الدعوة.
لماذا الهوية الإيمانية!
تنطوي الهوية الايمانية كما يقدمها السيد على ديناميكية متزامنة مع حركة العصر، بما تختزله من مضامين انسانية ثورية مقاومة للاستعمار والصهيونية، انطلاقا من واقع اليوم، في ضرورة امتلاك الشروط العلمية والتقنية من أجل المواجهة، على عكس ما يُطرح من فكر إسلامي سلفي جامد يرى مواجهة تحديات اليوم بالعودة إلى مظاهر وشكليات الحياة في القرن الأول للهجرة.
ولما كان السؤال مَن نحن؟ ومن هم؟ هو سؤال تحديد الهوية في كل الايديولوجيات، تنبه السيد إلى خطورة أن: “وصلت الحالة بالكثير من أبناء الأمة إلى عدم التمييز بين من نحن ومن هو العدو، وما هو مستوى الاستهداف، وأهمية ان نعود بكل جد إلى عناصر القوة لنستفيد منها في موجهة الأخطار”.
أدى فقدان الوعي بهذه الهوية كما يرى السيد إلى: ” فقدان الاحساس بالكرامة، بالعزة، بقيمة الاسلام بما فيه من قيم ومبادئ وتشريعات عظيمة”، وهي المبادئ والقيم التي يفترض بها حين يمتلكها الانسان أن تؤثر عليه ايجابا فيرفض الواقع البائس ويُغيره.
وبالتالي يقدم السيد هذه الهوية، من أجل أن تُبنى على تمثلها مواقف عملية في هذا الصراع مع الاستعماريين والتوسعيين.
بناء على فَهم بأن الصراع يجري في الأدمغة -كما يجري في الواقع- وباستقلال نسبي عن الواقع فيسبقه، وعليه فمَن يُسيطر على وعي الآخر يوجه حركته وسلوكه، يُحذر السيد من أن فقدان الهوية الايمانية يترك الوعي مُستباحاً، لأن أحد أساسات هذه الهوية وسمات المؤمنين هو الوعي والبصيرة،{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}؛ فالهوية الايمانية وفق هذا الفهم سبيل الاستقلال الثقافي والفكري من الاستعمار، وتحصين وحماية للأمة من الغفلة عن المخططات العدوانية الغربية، ومن التخلف الحضاري عنها، وإخلاء الساحة العالمية لشرورها.
وفي ذلك يقول السيد:
“نحن في هذا العصر كأمةٍ مسلمة إذا فقدنا هويتنا الإيمانية، فالنتيجة الحتمية المؤكدة هي الضياع، لا يحمي لنا كأمةٍ مسلمة كياننا ووجودنا ويدفع عنا المخاطر والتحديات التي نعيشها إلا الحفاظ على هذه الهوية، إلا الالتزام بهذا الانتماء بمفهومه الصحيح، وتنقية واقعنا حتى يتطابق مع هذا المفهوم بشكله الصحيح … العدو إذا سيطر على أفكارنا، مفاهيمنا، أثَّر علينا في سلوكياتنا وحياتنا وعاداتنا وتقاليدنا، حينها سيكون- بلا شك- متحكماً بنا، ومسيطراً على واقعنا بشكلٍ تام، حينها نضيع، نصبح أمةً مستغلة… الإيمان عنصر قوة، الأمة اليوم وهي تواجه الكثير من الفتن والمشاكل والتحديات والمخاطر في أول ما تحتاج إليه الحاجة الملحة الماسَّة جداً هي الوعي، من وعيٍ، وبصيرةٍ، وفهمٍ وثقافةٍ صحيحة، وفكرةٍ سليمة”.
الهوية والهوية الايمانية
تعرف الهوية فيما اتفقت عليه علوم الاجتماع، بأنها مجموعةٍ من السّمات الخاصّة المُميّزات التي يمتلّكها الأفراد والمجتمعات، والتي تحقق فيهم صفة التفرّد عن غيرهم. وهناك العديد من الهويات في المجتمعات، الهوية السياسية، هوية النظام الاجتماعي، الهوية الوطنية، والقومية…الخ، فما هي الهوية الإيمانية الذي يعنيها السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي؟
نُعتت الهوية الذي عناها السيد بالإيمانية أي أن أساسها الإيمان، فما هو مفهوم الإيمان التي تقوم عليه هذه الهوية؟ وكيف نفهم معاني الهوية ونكتشف سر الأهمية الذي يولها لها قائد الثورة الشعبية والمسيرة القرآنية.
جاء تعريف الإيمان في خطاب السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي بمناسبة جمعة رجب (1441هـ 2020م) كما يلي:
“الإيمان منظومةٌ متكاملة، مستقره القلب، ثم يتجسد في الواقع العملي التزاماً وعملاً ومسؤوليةً وقيماً وأخلاقاً وسلوكاً، يترك أثره في روحية الإنسان، في معاملاته، في مواقفه، فتنطبع مسيرة حياة الإنسان المؤمن بهذا الإيمان الذي يربطه بالله -سبحانه وتعالى-؛ فيعبِّد نفسه لله -جلَّ شأنه-“
ومن أجل إدراك أعمق لهذا التعريف وما ينطوي عليه من مفاهيم، نحلل أجزائه المكونه.
“منظومة متكاملة”، المنظومة مشتقة من النظام، وهو ما يتكون من مجموعة من الأجزاء أو العناصر التي تعمل معا لإنجاز وظيفة محددة، إذا سقط منها عنصر أو جزء أختلت، والحديث هنا عن عناصر وأجزاء الإيمان، الجاري تحليل تعريفه.
“مستقرة القلب”، مدلول القلب في الفكر الاسلامي مستقر المعنويات من مشاعر وعواطف واعتقادات، ووعاء الوعي، ومهبط الأسرار والتجليات.
” ثم يتجسد في الواقع العملي”، هذا الجزء من التعريف يُشير إلى تحول الايمان من العنصر المعنوي إلى المأدي في الممارسة العملية، أي أنه ليس اعتقادا لمجرد الاعتقاد وحالة وعي مُجردة.
” التزاما وعملا مسؤولية وقيماً وأخلاقاً وسلوكاً”، هذا الجزء من التعريف يُعين عناصر منظومة الايمان التي تتجسد في الواقع المأدي مما يعني بأن، الخلل في أحد عناصره كالالتزام بما أوجبه الله وكتبه وفرضه وقضاه يُسقط الايمان ويفقد ثمرته في الحياة.
“يترك أثره في روحية الإنسان في معاملاته في مواقفه”، ونجد ان السيد يفرق بين تجسد الإيمان أي ممارسته، وبين الروحية العملية كأثر للإيمان، فالروح العملية المنطبعة بالإيمان هي التي تميز سلوك وعمل والتزام وموقف المؤمن بالله في سائر شؤون الحياة، وتصل هذه الروحية إلى الرقي في التعامل مع الجماد “يمشون في الأرض هونا” كما جاء في تبيان القرآن.
” فتنطبع مسيرة حياة الإنسان المؤمن بهذا الإيمان، الذي يربطه بالله؛ فيُبعد نفسه لله”. هذا الجزء من التعريف ختامه، فيه بيان نتيجة الإيمان في أن يرتقي السلوك والموقف والعمل والخُلق والإلتزام، ويكون مظهراً لعبودية الانسان لله، بما يعني تحرره من عبودية ما سوى الله من الطواغيت العدوانيين، ومن أهواء النفس.
وإذا ما أعيد كتابة تعريف الإيمان بعد دراسة اجزائه فهو على النحول التالي:
الإيمان، اعتقاد في القلب وعاطفة تربط الانسان بالله، تتجسد في ممارستة العملية الانتاجية المعرفية الكفاحية وترقى بسلوكه على نحو قيمي وأخلاقي، ثمرته إخلاص العبودية لله مما عداه من الطواغيت، وقيامه بواجب الاستخلاف في الأرض.
تميز الهوية الإيمانية
المفهوم الذي قدمه السيد للهوية الايمانية، يُميزها عن سائر الهويات، فهي مكونة من بُعدين معنوي ومأدي مُتصلان بالله، فالجانب المعنوي لهذه الهوية يتميز عن الجوانب المعنوية لسائر الهويات والتي تكون متصلة بمفهوم أيديولوجي مصلحي أو أسطوري خرافي، فالجانب المعنوي في الهوية الايمانية متصل بالله المتولي لعباده، الفاعل المعين الهادي، الذي له ترخص التضحيات، ولا يضيع أجر من أحسن عملا.
والجانب المأدي للهوية الايمانية، يتميز عن الجوانب المأدية لسائر الهويات، فالهوية الايمانية تدفع إلى الانتاج والكفاح والمعرفة والتطوير، كواجبات على الإنسان المُسلم لا مناص منها، يؤديها التزاما لتوجيهات الله، ويقوم بها على أساس من هدى الله بما يوجب رضوانه ويُظهر عظمته، فيما البعد المأدي لبقية الهويات ليس فيه عنصر الالتزام ولا بُعد الهدى الأخلاقي ويُمكن للإنسان الذي ينتمي لأي من تلك الهويات أن يتهرب من أحد عناصرها فيما يظل متصفا بتلك الهوية.
وعلى العكس من ذلك فإن الهوية الايمانية -في أحد جوانبها- توجب الجهاد دفعاً للطاغوت وتوحيداً لله كواجب إذا فرط فيه الانسان تراجع عن مرتبة الإيمان، فيما الكفاح الموازي للجهاد المسلح(1) إذا تنصل عنه أحد المنتمين لهوية غير الايمانية- تطرح الكفاح كأحد عناصرها- لا يجد ما يضغط عليه من داخله للالتزام بخوض الكفاح أو النضال، بل قد يجد في هويته الأيديولوجية والفلسفية ما قد يبرر له التنصل، كحال طائفة من الفقهاء المسلمين البعيدين عن الهوية الايمانية -كما حددها في القرآن- افترضوا وجود “مخارج شرعية” من عدم القيام بمسؤولية الكفر بالطاغوت لإخلاص توحيدهم لله، فيما لا يوجد في الهوية الايمانية تبرير للعيش في ظل سيطرة الطاغوت واستساغة واقع حياة الذل والهوان بدون الجهاد بمختلف اشكاله من أجل نيل الحرية، في إخلاص العبودية لله وحده.
في الملموس التاريخي اليوم، التأويلات السياسية الراهنة تجعل طائفة من انتهازيي التوجه الاشتراكي أو القومي، يقبلون بالهيمنة الأمريكية انطلاقا من أن هذا العصر هو عصر العولمة وبأن مفهوم السيادة الوطنية مفهوم قديم نتيجة تشابك المصالح الدولية، وبناء على ذلك يُمكن قبول الهيمنة الأمريكية ومعايير المجتمع الدولي الغربية، هذه التأويلات الخاطئة الصادرة عن طائفة من المثقفين الانتهازيين، المنمقة بمقولات من الفلسفة وعلوم الاجتماع تبرر قبول انتهاك السيادة والخضوع، لكن الهوية الايمانية لا تُبرر البقاء تحت الهيمنة الغربية وتسلط الصهيونية المسيحية واليهودية من الأمريكيين والإسرائيليين، بل تدعو إلى المقاومة والإعداد والعمل على التحرر من هذه الهيمنة الاستعمارية.
المنافقون والهوية الايمانية
اقتصر في هذا العصر الفهم الإسلامي لفئة المنافقين على حفظ الخصال التي وردت عنهم في ما روي عن رسول الله (صلوات الله عليه وآله) (2)، بل إن المفكرين الاسلاميين المعاصرين لم يذكروا هذه الفئة في دراساتهم، وأصبح هناك تواطئ بين النخب والعامة بان التصنيف الديني للمجتمع، الذي على أساسه يُحدد المنافقون، لم يعد له قيمه أو وجود في هذا العصر، إلا أن السيد وبالاعتماد على القرآن الكريم يشدد على هذا التصنيف، ويبين وجود هذا المفهوم في واقع العصر انعكاسا لوجود هذه الفئات.
وفق ما جاء في القرآن يُبين السيد بأن أبرز سمات المنافقين هي الخلل في ولائهم، مما يجعلهم على تناقض تام مع الهوية الإيمانية. وإذا ما جئنا إلى العلاقة الذي أقامها السيد بين الايمان وبناء الحضارة، فإن السؤال هو: ما موقع المنافقين من مسألة بناء الحضارة التي يُفترض أن تُقام اعتماداً على الهوية الإيمانية وبشكل آخر: هل النفاق حالة اعتقاد باطنية خاصة لدى المنافقين لا تؤثر على الواقع؟
الجواب كما اوضحه السيد هو أن خطورة المنافقين تكمن في الخلل في ولاؤهم، وهو خطر ملموس ومهدد للمجتمع الاسلامي معيق لنهوضه الحضاري؛ لأنهم يدخلون في حالة حركة ونشاط منسجمين مع الأعداء، ولا يقتصر النفاق على المكنونات الاعتقادية الخفية لهم، وفي الواضع التاريخي الراهن، فإن الموقف النفاقي في تولي كل من السعودية والإمارات للولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني، والوقوف ضد دول وقوى محور المقاومة له تأثير كبير في إعاقة بناء الحضارة في بلادنا كما في محيطها، من حيث كون هذه الدول التوسعية والاستعمارية تمانع في أن يحقق شعبنا الاستقلال والحرية الوطنيتين ويبني دولة قوية متطورة عادلة، وفي كون هذه الدولة المنافقة قياداتها تخوض حروب أمريكا وإسرائيل في العالم العربي الاسلامي.
الهوية الايمانية في واقع الصراع
يربط السيد ما بين الهوية الايمانية وميدان الصراع، بناء على نظرته إلى الهوية كمعطى معنوي له امتداداته في الوقع، فحين فُقدت الهوية الايمانية إنما فقدت في مجرى الصراع الاجتماعي بين ثنائية المُستكبرين والمُستضعفين، بين عباد الله الذين يجاهدون للتحرر من ما سوى الله، وبين الطغاة الذين يريدون استعبادهم، ولما كان يجب استعادتها إنما للحاجة إليها في مجرى الصراع، ووفق هذا الفهم الحركي العملي للهوية الذي قدمه السيد؛ فإن الهوية الإيمانية أبعد ما تكون عن السمات الخاصة الظاهرية الخارجية الثابتة والثابتة نسبياً التي تميز شيء عن شيء ونوع عن نوع، وشعب عن شعب.
العودة إلى الهوية الايمانية تعني العودة إلى الدين الاسلامي في أصالته كما جاء في الفهم القرآني وفي حركة الرسول، دين الدخول في عبودية الله والتحرر من ما سوى الله، وهذه المضامين الأساسية للدين كما يُعيد طرحها السيد اليوم، فقدت في مجرى الصراع، حتى تغير فهم الانسان المسلم للإسلام، وغاب عن المسلمين بأن القيم الثورية والتحررية من صلب دينهم.
الايمان لمسيرة الحياة
من أهم ما يقدمه السيد القائد في مفهوم الإيمان، هوَ أنه يقدمه كإيمان صلة بالله، وكإيمان للحياة يُنتفع منه في مجرى النشاط التحويلي الانتاجي المعرفي، على الأرض من أجل بناء حضارة مستقلة عادلة متميزة قائمة على أساس من القيم والمبادئ الإلهية.
يعالج السيد في هذا الطرح مشكلتين كبيرتين في الوعي الاسلامي اليومي، الوعي الناقص والمغلوط، وهو وعي يحصر الايمان في شكليات من شعائر وطقوس: ” الإيمان هو للحياة، ليس شيئاً ثانوياً، ليس خاصاً بالمساجد، ليس مجرد شعائر وطقوس “. يأتي تصويب السيد لهذا الفهم الخاطئ بالتأكيد على أن الايمان هو للحياة وللإنسان في الأرض بما يعنيه مفهوم الاستخلاف فيها من دلالات.
يركز السيد على نقض الايمان الاعتيادي الذي غَيب في نفوس الناس استشعار حضور الله، وحجبهم عنه، وهذه المسألة خطيرة على المستوى العقائدي إذ تُعتبر من الشرك الخفي، كما أنها خطيرة على المستوى العملي والحركي.
وفي هذا يقول السيد: “القرآن الكريم يقدم لنا الإيمان أولاً كصلة بالله -سبحانه وتعالى- بكل ما لهذا من مدلول مهم وعظيم، الإيمان يجعلنا على اتصال بالله، اتصال بهدايته، برعايته، بتوجيهاته، بتعليماته، بمعونته، بتوفيقه… بكل ما يمكن أن يكون لهذه الصلة من تأثير كبير جداً في الإنسان نفسه، في الأمة كأمة، والمجتمع كمجتمع، في الواقع بنفسه”.
وبناءً على ما جاء في كلام السيد فهو يصوب مفهوم العلاقة بين الله والانسان، كعلاقة تبرز فيها قيومية الله الفاعل الذي يُمد الانسان بالهداية والعون والصبر والثبات في ميدان الحياة. ومن أهم هذه الإمدادات الإلهية في ميدان الصراع هو المدد المعنوي.
“لا تقتصر المسألة على أنَّ حالتك الإيمانية، ثقتك بالله هي بنفسها التي توفر هذه الحالة المعنوية؛ إنما أنت على اتصال برعاية معنوية من الله الذي قال {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} ، الله -جلَّ شأنه- هو الذي يقول: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا} ، الله هو الذي يمنحك هذا العطاء المعنوي المهم جداً، المتمثل بالسكينة، بالاطمئنان، بالربط على القلب، بما يوفر من طاقة معنوية هائلة ، تساعد على الثبات مهما كانت التحديات، المخاطر، الضغوط، المعاناة؛ تقف بتلك المعنوية العالية، بتلك السكينة.”
الايمان ومسألة النهوض
يقدم السيد الإيمان كعامل أساسي وهام من أجل النهوض لمواجهة التحديات الخارجية، ومن اجل علاج الضعف والجراحات الداخلية التي تعاني منها الأمة، الشعب، المجتمع، ولطالما طرح السؤال عن كيفية النهوض من الواقع السيء وما هي أولى الخطوت، وهنا يقدم السيد عامل الايمان وفق ما سبق من تعريفهِ له، كأولوية من أجل النهوض.
هذا الفهم الذي يقدمه السيد فيه حل لمعضلة فلسفية، بين التيارات “المادية” والتيارات “المثالية”، ففيما التيارات “المادية” تولي أهمية في البدء للمسائل المادية في تغيير الواقع الموضوعي، ومن ثم يتغير الوعي في الدماغ نتيجة تغير الواقع، وعلى العكس منها تطرح التيارات “المثالية” بأن تغيير الوعي الذي ميدانه الدماغ هو الأول، ونتيجة لتغير الوعي يتغير الواقع.
إن الجديد الذي طرحه السيد على هذا الصعيد الفلسفي جاء نتاج لفهمه القرآني للإيمان بالله، فالإيمان كما يُقدمه السيد له شقان معنوي ومأدي، المعنوي فيه تغيير الانسان لوعيه في الدماغ والتهيئة للعمل والتغيير، والمادي فيه هو العون والمداد الإلهي المعين في الحركة المادية للإنسان الساعي للنهوض في ظل افتقاره لعناصر القوة وتخلفه عنها، وهكذا فإن الايمان الذي له هذان البُعدان والذي يتوحد معه الاعتقاد والحركة والعون الإلهي في آن، هو العلاج للأمة للنهوض من واقعها المزري.
الايمان ومسؤولية بناء الحضارة
يبرز الايمان بالله كاحتياج إنساني يدفعه إلى الارتقاء من واقع الانحطاط والتحرر من واقع الهيمنة، وإلى بناء الحضارة، وقوة معنوية تخلص الإنسان من سطوة مشاعر الإكبار والإعظام لدول الاستعمار الغربية فيما وصلت إليه من تقدم وافتراض أن ذلك النموذج نهاية التاريخ كما ينظر المفكرون الليبراليون، أو بأن الهوة الحضارية اتسعت ما بين واقع الشرق والغرب إلى حدٍ لا يُمكن معه للمجتمعات العربية والإسلامية التطور والارتقاء.
يرى السيد بأن الايمان هو الدافع الأقوى، لتوجه الأمة الشعب المجتمع إلى النهوض والإنتاج والتطور والبناء وامتلاك العلوم والمعارف العلمية، ومصدر هذا الدافع المسؤولية التي يفرضها الإيمان على الإنسان مسؤولية الاستخلاف في الأرض، ومسؤولية التعبد لله والتحرر من الطاغوت، وهذه المسؤولية لا تُنفذ إلا بتحقيق المجتمع الاكتفاء الذاتي وتحرره من الضغوط الأجنبية وإرساء حضارة قائمة على أسس من الخير والعدالة والمبادئ الإلهية، لا على أساس من الاستغلال والاحتكار كما هو عليه واقع الحضارة الغربية، الذي يؤدي إلى دمار الحضارة، ويؤدي إلى تناقض ما بين تطور العلم وواقع الحياة فينصرف كل تطور علمي وتقني إلى الشَر لا سعادة الانسان على الأرض. ويؤدي احتكار العلم ومنعه عنا ومحاربتنا عليه، إلى بقاء مجتمعاتنا وبلداننا رهينة للهيمنة الغربية، تأخذ منها الموارد الخامة وتبقي عليها كسوق إستهلاكية، كأبرز ملامح الاستعمار والهيمنة الاستعمارية في بعدها الاقتصادي.(3)
يقدم السيد المسؤولية في بناء الحضارة ليست فقط كمسؤولية وطنية قومية يفرضها واقع الصراع كما هي عليه سائر الأمم التي تستشعر مسؤوليتها القومية في النهوض الحضاري، علاوة على هذا البُعد القومي في استشعار ضرورة النهوض الحضاري وهو الامر الذي لا يستنكره السيد القائد ويُثبته كحق إنساني، إلا أنه وإضافة إلى ذلك وعلاوة عليه يُقدم المسؤولية في البناء الحضاري من المنطلق الديني للمجتمع المُسلم، وهذا ما يتميز به الدين الاسلامي المحمدي عن سائر الفرق الدينية، فيصبح من موجبات الإسلام والإيمان إبداع الحضارة، وهذا الفهم القرآني للإيمان يلقى حرباً من قوى الاستعمار العالمية، لتناقضه مع مصالحها الاستغلالية الاستعبادية، فعملت وتعمل ما بوسعها على محاربته وطمس ملامحه ملامح الهوية الايمانية الأصيلة، فيما تدعم التيارات الدينية الاسلامية النقيضه كالحركة الوهابية، كما تعمل الامارات على محاولة ايجاد تيار صوفي مشوه ليس قرآنيا ولا محمدياً وتتجلى هذه الرغبة الإماراتية في دعمها انتاج درامي عن شخصيات صوفية كبيرة «الحلاج» و«إبن عربي»، ففي هذين المسلسلين ظهر إبن عربي عاشق والحلاج هائم بدون موقف ثوري من الظلم الاجتماعي، فيما كانت مشاهد القصور الجواري الغالبة على المسلسل.
التوحيد والاستقلال
إن من أعظم ما قدمه السيد من فهم قرآني لمبدأ التوحيد هو هذا الفهم الحضاري والتقدمي المستجيب -بدون لي عنق النص- لمتطلبات واحتياجات الانسان في العصر الراهن، في مواجهة قوى الاستعمار.
كان قد توقف مبدأ التوحيد عند كثير من المفكرين الاسلاميين، على عصر البعثة النبوية وأنتهى بفتح مكة وسقوط الاصنام، وآخر الخطابات الإسلامية التي رفعت عنوان التوحيد وتحركت به هي الدعوة الوهابية في فهم سطحي للتوحيد أنصرف إلى هَدم القباب والأضرحة وتوسيع الدولة السعودية، وهو توحيد زائف لقى دعماً غربياً.
يعود مبدأ التوحيد على لسان قائد الثورة في حيويته التي كانت عليها في زمن البعثة، مبدأ يتناقض ويتصادم مع الطواغيت الذي يُريدون استبعاد البشر، ويتجلى التصادم والرفض لهذا المبدأ في العدائية الأمريكية المواجهة للخطاب القرآني القادم من اليمن.
يقول السيد:
“مبدأ الاستقلال أننا كأمة لا يجوز ولا يمكن أبداً بحكم هذا الانتماء الإيماني أن نعيش حالة التبعية لأعدائنا، لا بدَّ أن نحقق لأنفسنا الاستقلال، ونسعى في هذا الاستقلال أن يكون استقلالاً لا نعيش فيه حالة التبعية بأي شكلٍ من أشكالها، لا تبعيةً ثقافيةً وفكرية، هذا المبدأ المهم العظيم يبنينا كأمةٍ مستقلة، ويحصننا من العبودية والإذلال والاستعمار لصالح أعداء الأمة، مبدأ إيماني بنَّاء، يجعلنا نتجه في هذه الحياة بشكلٍ عمليٍ وبنَّاء، يحمينا من خطر كبير من جانب أعدائنا. نجد فيه أيضاً عنصر قوة، ومن أهم قيم هذا الإيمان هو العزة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، أن نكون أعزاء، في واقع حياتنا، في علاقتنا بالآخرين”.
الهوامش
1- “الجهاد معناه بذل الجهد في كافة المجالات لإقامة دين الله، لم يعتبر الموقف من العدو نفسه إلا موضوعاً من مواضيع اقامة دين الله، الذي يبدأ من الناس أنفسهم، استقامتهم فيما بينهم. القضية الأساسية لأمة تتحرك لأن تجاهد أن تقدم نفسها نموذجاً فعلاً في التعامل فيما بينهم في صدقهم مع بعضهم بعض في إخائهم في تألفهم في قوتهم في منطقهم في حكمتهم بمعنى العمل لإقامة دين الله، هذا هو الجهاد في سبيله يشمل الكلمة ويشمل القلم ويمل اشياء كثيرة جداً ويشمل السلاح بمختلف أنواعه فالجهاد هو هذه القائمة الواسعة تتحرك فيها لا تنظر إلى مجال دون مجال”. السيد حسين الحوثي ملزمة سورة المائدة الدرس الثاني والعشرون من دروس رمضان.
2- روي نصان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن علامات المنافق، أولهما قوله: “آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان”. والنص الآخر: “أربع من كن فيه كان منافقا، ومن كانت خصلة منهن فيه كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدَعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر”.
3- “نحن نحتاج إلى عنصر الإيمان في الدافع المعنوي، الذي يجعلنا نتحرك عملياً بأملٍ ورجاءٍ، وبإحساسٍ بالمسؤولية، أمام الله وأننا سنجازى، إن قصرنا في مسؤوليتنا، حتى على المستوى الحضاري أن تكون أمةً تتجه لتكون أمةً قوية، في اقتصادها، تنتج كل احتياجاتها الإنسانية، لا تحتاج إلى أعدائها، بل تمتلك عناصر القوة المادية إلى جانب القوة المعنوية، وتحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي، هذا جزءٌ من دينها، يدخل ضمن التوجيهات الإلهية في قول الله : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} فتتجه لتكون أمةً قوية، على مستوى مقومات الحضارة من امتلاك العلم، ثم توظيف هذا العلم في بناء حضارة، هذا ما لا يريدونه، هم من قتلوا العلماء في العراق وغير العراق، يحرصون على أن تكون السياسات التي تبنى عليها مناهجنا التعليمية بالشكل الذي يبني واقعنا حسب ما يريدون ويرغبون، ما يريدونه لنا على المستوى الاقتصادي: أن نكون سوقاً لهم، أن ينهبوا الطاقة كل المواد الخام الموجودة في بلداننا النفط، المعادن، الخيرات، ثم يستغلوها هم، يستفيدوا منها هم، وأن يسوقوا البعض منها إلينا، وقد يكون مشوباً بالكثير من المضار، ثم نجعل من أنفسنا سوقاً استهلاكية”. مصدر سابق