[29/ فبراير/2020]
صنعاء – سبأ :
وجه السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي مساء أمس كلمة في ذكرى جمعة رجب فيما يلي نصها :
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّداً عبدُه ورَسُوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، وبارِكْ على مُحَمَّدٍ وعلى آلِ مُحَمَّد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللَّهُم برِضَاك عن أَصْحَابِهِ الأخيارِ المنتجبين، وعن سائرِ عِبَادِك الصالحين.
أيها الإخوة والأخوات: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
نبارك لشعبنا اليمني المسلم العزيز بهذه المناسبة العزيزة والذكرى المجيدة: جمعة رجب، التي هي مناسبة دينية عظيمة ومقدَّسة، تحمل ذكرى لدخول أهل اليمن في الإسلام، عندما وصل الإمام عليٌّ -عليه السلام- إلى صنعاء، وقرأ رسالة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- التي يدعو فيها أهل اليمن إلى الإسلام، فكانت الاستجابة سريعةً، وبادر الناس للدخول في دين الله أفواجا، تلك كانت محطة من محطات انتشار الإسلام في اليمن، ومحطةٌ مهمة، وعندما وصل مكتوب الإمام علي -عليه السلام- ووصلت رسالته إلى رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- يخبره فيها باستجابة أهل اليمن وبدخولهم في الاسلام، وبانتشار الإسلام بشكلٍ رسميٍ وشاملٍ وعام في ربوع اليمن، سُرَّ رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- لذلك سروراً عظيماً.
وهذا الدخول في الإسلام، وهذا الانتماء للإسلام، وتلك الاستجابة لرسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- في الانتماء للإسلام والإيمان برسالة الله -سبحانه وتعالى- كانت تمثل تحولاً كبيراً في مسيرة حياة أهل اليمن، وكان الانتماء منهم للإسلام والدخول في دين الله -سبحانه وتعالى- وإيمانهم بالله -سبحانه وتعالى- وبرسالته ورسوله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- بشكلٍ مميز، وكان منهم في كل المحطات التاريخية منذ بداية البعثة النبوية، وقصة عمار بن ياسر ووالده… إلى سائر المحطات الأخرى، كان دخولهم وانتماؤهم وإيمانهم بشكلٍ متميزٍ إلى درجة أن قال رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- فيما روي عنه: (الإيمانُ يمان، والحكمة يمانية)، وهذه المناسبة المباركة، وهذا النص النبوي المروي عن رسول الله -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله- يخبرنا ويدلنا ويفيدنا عن عظمة هذا الانتماء، وعن المصداقية الكبيرة التي كان عليها أخيار أهل اليمن في انتمائهم للإسلام، ويعلمنا بالهوية الحقيقية لهذا الشعب اليمني العظيم.
ولذلك أصبحت هذه المناسبة مناسبةً مهمة لترسيخ وتعزيز هذا الانتماء، وهذه الهوية الإيمانية لهذا الشعب العظيم؛ لأن هذا النص المبارك: (الإيمان يمان) له دلالة كبيرة جداً، ونحرص على التذكير بها في كثيرٍ من المناسبات، وفي كثيرٍ من المحاضرات، يعبِّر عن طبيعة الدور في هذا الشعب، وليس فقط مجرد الانتماء العادي للإيمان؛ إنما لهذا الشعب دوراً مميزاً وأساسياً ومهماً في المسيرة الإيمانية، وهويته الإيمانية هي على النحو الذي يقدِّم فيه النموذج- أولاً- النموذج المتميز الراقي المعبِّر المفيد، ثم أيضاً الدور الأصيل في حمل راية هذا الدين، في حمل الراية الإيمانية، في الثبات على المبادئ الإيمانية في كل المحطات الحسَّاسة في واقع هذه الأمة على امتداد مستقبل هذه الأمة.
الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كان يتطلع إلى مستقبل أمته، ولم يكن يتحدث فقط عن حاضرها في عصره وزمنه؛ إنما كان يتحدث بما يعني هذه الأمة في كل المفاصل والمحطات المستقبلية، وفيما تواجه هذه الأمة من محن، وفتن، وتحديات، ومخاطر؛ ولهذا قال فيما روي عنه: (إذا هاجت الفتن فعليكم باليمن)، لماذا (فعليكم باليمن)؟ لأن هناك في هذا البلد من أبناء هذا الشعب من يمثلون الامتداد الصادق والأصيل في انتمائهم الإيماني، وهذه مسألة مهمة جداً تعنينا اليوم كشعبٍ يمنيٍ مسلم فيما نحن عليه، وفيما نواجهه من تحديات ومخاطر وفتن، وفي مسؤوليتنا التي ينبغي أن نعيها جيداً، وأن ننطلق انطلاقةً مبنيةً على أساس هذا الانتماء، ومن خلال هذه الهوية.
ولذلك نحن نرى في هذه المناسبة الدينية المباركة- كما قلنا- فرصةً لتعزيز وترسيخ هذه الهوية وهذا الانتماء، ونرى في هذه المناسبة أيضاً محطة تربوية وتوعوية وتثقيفية نحن في أمسِّ الحاجة للاستفادة منها، كما في سائر المناسبات الدينية التي نركز على الاستفادة منها، نحن بطبيعة ما نواجهه في هذه الحياة من مشاغل ومشاكل وتحديات، وما نعيشه من ظروف، يعتري الإنسان الغفلة، يعتري الإنسان الذهول عن كثيرٍ من الأشياء المهمة، يعيش الإنسان في واقع الحياة الكثير من الأمور التي قد تشتت من تركيزه، التي قد تقلل من اهتمامه ببعض الأمور المهمة، ولكن يمكننا القول: أننا نعيش كأمةٍ مسلمة بشكلٍ عام، وليس فقط على مستوى شعبنا اليمني، كأمةٍ مسلمة بشكلٍ عام نعيش ونواجه التحديات الكبيرة التي لا يمكن التجاهل لها، والغفلة عنها، واللامبالاة بها، والتنكر للمسؤولية تجاهها؛ لأنها تحديات إن تجاهلناها وغفلنا عنها، تسحقنا ولا تتركنا، وهي لا يمكن أن نستفيد من تجاهلنا لها التخلص من أعبائها وتبعاتها وآثارها ونتائجها. لا، هي تحديات نحن نعيشها شئنا أم أبينا، وهو أمرٌ طبيعيٌ في واقع الحياة وفي مسيرة الحياة البشرية.
ولهذا دائماً نحن نحرص على أن نذكِّر أنفسنا ونذكِّر الجميع بما يذكِّرنا الله به -سبحانه وتعالى- وما يفهمنا به ويبينه لنا عن طبيعة ظروف الحياة البشرية، بما فيها من تحديات ومسؤوليات؛ باعتبار هذه الحياة هي ميدانٌ للمسؤولية، ميدانٌ للاختبار، ميدانٌ للعمل، ميدانٌ يبذل الإنسان فيه جهده، ويتحرك فيه بروحٍ عملية، ميدانٌ لا مجال فيه للتنصل عن المسؤولية والكسل والإهمال والغفلة، إلا ويدفع الإنسان الثمن الفادح والباهض والكبير، الذي هو أكثر بكثير من ثمن التحمل للمسؤولية والعمل والجد والوعي والبصيرة والاهتمام.
وعلى كُلٍّ نحن عندما نأتي إلى العنوان المهم، وهو: عنوان الإيمان، عنوانٌ عظيم، وعنوانٌ مهم، وعنوانٌ مقدس، وعنوانٌ حاضرٌ وموجود في ساحتنا الإسلامية، لربما كل من ينتمي إلى الإسلام، سيقول عن نفسه أنه من الذين آمنوا، وأنه من المؤمنين، وأنه ينتمي للإيمان، وأنه يتشرف بهذا الشرف وبهذا الانتماء الكبير والعظيم والمهم.
والقرآن الكريم يقدِّم لنا حتى ما يبين لنا أنه ينتمي بالقول وبالمزاعم وبالادعاء بهذا الانتماء الكثير من الناس ممن هم حتى بعيدون عنه، ولا مصداقية لهم عندما يدَّعون ذلك، الله -جلَّ شأنه- قال في القرآن الكريم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}[البقرة: الآية8]، الله -سبحانه وتعالى- يخبرنا أنهم يدَّعون أنهم من الذين آمنوا بالله وباليوم الآخر، وأنهم يقولون ذلك بشكل عنوان رئيسي لديهم، قد يتحركون تحت هذا العنوان في طبيعة نشاطهم في المجتمع، في طبيعة نشاطهم في الساحة، قد يجعلون منه عنواناً رئيسياً لبعضٍ حتى من الأنشطة التضليلية، الأنشطة الهدَّامة، الأنشطة التخريبية، الأنشطة المفسدة، وهم يحاولون أن يتحركوا فيها تحت هذا العنوان بنفسه، إلى هذه الدرجة، بينما الله -جل شأنه- يقول عنهم: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، فينفي نفياً قاطعاً أن يكونوا من المؤمنين، بما يبين لنا أنه لا يكفي في هذا العنوان أن يقوله الإنسان، وأن يدعيه، وأن ينتمي إليه بالكلام، وليس بالانتماء الصادق والواعي الملتزم.
هذه الفئة تحدث عنها القرآن الكريم كثيراً، هي فئة موجودة بشكلٍ كبير في أوساط المسلمين، منتشرة في الساحة الإسلامية، وهم كما سمَّاهم القرآن الكريم بالمنافقين، المنافقون فئة تنتمي للإسلام، تدَّعي الإيمان، تتحرك في أوساط الأمة، ولكنها بعيدةٌ في مصداقيتها؛ لأنها أخلّت في هذا الانتماء إخلالاً رهيباً جداً في مبادئ أساسية، وعناوين أساسية، والتزامات عملية أساسية، ومبادئ مهمة، وكان إخلالها بتلك المبادئ، بتلك القيم، بتلك الالتزامات العملية، يمثِّل ضربةً قاضية لمصداقيتها في ادعائها للإيمان، وفي انتمائها للإيمان.
أبرز خلل لدى المنافقين هو الخلل في ولائهم، المنافقون أكبر خللٍ يجمعهم ويجمع كل فئات النفاق هو الخلل في الولاء، الله -جلَّ شأنه- قال عنهم: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}[النساء: 138-139]، فئة تتجه في علاقاتها وروابطها ومواقفها اتجاهاً سلبياً، ليس لصالح دين الله، ليس لصالح الأمة، ليس لصالح المسلمين والمؤمنين؛ إنما تنحرف في مواقفها وفي ولاءاتها، وتقف الموقف الذي هو لخدمة أعداء الأمة، وتظهر في علاقات وروابط ومواقف منسجمةً مع أعداء الأمة من الكافرين، كما نشاهده في زمننا هذا بوضوح في اتجاه بعض الأنظمة والكيانات من أبناء الأمة في ولائهم الواضح، وارتباطاتهم المكشوفة، وعلاقاتهم المفضوحة، ومواقفهم المنحرفة مع أمريكا ومع إسرائيل، وفي المقابل مواقفهم العدائية ضد أبناء الأمة، سواءً عندنا في اليمن، أو في فلسطين… أو في أقطارٍ أخرى من أبناء الأمة، وتجاه الكثير من أحرار الأمة، الذين صدقوا في مواقفهم، ووقفوا المواقف المنسجمة إيمانياً مع هذا الانتماء المهم والعظيم.
فإذاً هناك فئة تتحرك في الساحة وتحمل هذا العنوان، وتكرره، وتجعل منه غطاءً لكثيرٍ من أنشطتها في الساحة، وتتظاهر فيه بالشكليات، وقد توظف حتى المنبر الديني والخطاب الديني، وحتى المسجد، وحتى الصلاة، وحتى الشعائر الدينية قد توظفها لذلك، كما ورد في القرآن الكريم: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ}[التوبة: من الآية107]، وهذا ما نراه اليوم متمثلاً بكثيرٍ من أبناء الأمة، الذين انحرفوا هذا الانحراف في مواقفهم وفي ولاءاتهم، وباتوا بكل وضوح تحت الراية الأمريكية، وباتوا بكل وضوح في موقف الولاء لأمريكا والولاء لإسرائيل، والمعية مع أمريكا، هم معها، معها في مواقفها، مع إسرائيل في توجهاتها، فكانوا بذلك مفضوحين ومكشوفين، {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ}[البقرة: الآية9]، هم في واقع الحال أصبحوا مفضوحين، فضحهم القرآن الكريم، فضحتهم الأحداث والوقائع والمواقف، فضحهم الواقع الجلي الذي كشف حقيقة ما هم عليه.
هناك أيضاً فئة أخرى أيضاً تنتمي هذا الانتماء، مثلما قال الله -جلَّ شأنه- في القرآن الكريم: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}[الحجرات: من الآية14]، من أبناء الأمة فئة واسعة تنتمي الانتماء غير الواعي، الانتماء الناقص، الانتماء الذي فُصِّل بنمطٍ معين، وشُكِّل بشكلٍ معين وفقاً لهوى النفس، وفقاً للمزاج الشخصي، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}، الأعراب كان لهم هذا الادعاء، وكانوا يتحركون بهذا الانتماء: العنوان الإيماني، العنوان الإيماني، {آمَنَّا}، فيقدِّمون أنفسهم تحت هذا العنوان، ويؤكدون أنَّ هذا قد تحقق لهم، وأنَّ انتماؤهم هو انتماءٌ كامل، وانتماءٌ صادق، وانتماءٌ تام، لكن الله -جلَّ شأنه- ردَّ عليهم فقال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا}[الحجرات: من الآية14]، وهذا نفيٌ قاطع، {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات: من الآية14]، أنتم بعد لم تصلوا إلى هذا المستوى: أن يدخل الإيمان إلى قلوبكم؛ لأن الإيمان يجب أن يصل إلى القلب، لا يمكن أن يكون الإيمان مجرد قولٍ تقوله، ولا مجرد طقوسٍ وشكلياتٍ محدودة تلتزم بها بالمستوى الذي تريد، وبالمقدار الذي ترغب. لا، الإيمان ليس على هذا النمط، ليس بهذه الشاكلة، ليس على هذا النحو. الإيمان منظومةٌ متكاملة، منظومةٌ مهمةٌ جداً مستقره القلب، ثم يتجسد في الواقع العملي التزاماً وعملاً ومسؤوليةً وقيماً وأخلاقاً وسلوكاً، منظومة متكاملة ويستقر في قلب الإنسان، أولاً يصل إلى القلب، ثم يترك أثره في روحية الإنسان، في سلوكياته، في أخلاقه، في معاملاته، في مواقفه، فتنطبع مسيرة حياة الإنسان المؤمن بهذا الإيمان الذي يربطه بالله -سبحانه وتعالى-؛ فيعبِّد نفسه لله -جلَّ شأنه-.
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا}، فهم حسبوا في تقديراتهم الخاطئة، في فهمهم الناقص، فهموا أنَّ مجرد الانتماء للإسلام والشهادتين، والالتزام ببعض الشعائر الدينية، والالتزام ببعض الأمور الدينية، أنَّ هذا أصبح يمثل انتماءً حقيقياً وصادقاً للإيمان، فالله -جلَّ شأنه- ردَّ عليهم في ذلك، {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا}، لا بأس، انتماؤكم هذا للإسلام خروجٌ من حالة الشرك، انتسابٌ لهذا الدين، دخولٌ في إطار هذه الملة، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، أنتم أسلمتم بالدخول في الإسلام، لكن لم ترتقوا بعد إلى مستوى الإيمان، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}[الحجرات: 14-15]، نجد كيف أنَّ المسؤولية المتجسدة بعنوان الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- بالنفس وبالمال هي جزءٌ رئيسيٌ وأساسيٌ من الإيمان، وهي المحك المهم الذي يجلّي مصداقية الإنسان في انتمائه للإيمان، وهذا ما لم يكن يرغب به الأعراب، الأعراب أرادوا إيماناً لا مسؤولية فيه، إيماناً لا يكون الموقف جزءاً منه، لا يكون العطاء جزءاً منه، لا تكون التضحية جزءاً منه، لا يكون الجهاد جزءاً منه، أرادوا إيمان الشعائر الدينية فحسب، إيماناً يقتصر على الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج مثلاً، بعضاً من الشعائر الدينية، بعضاً من الالتزامات الدينية التي يرون فيها أنها بسيطة، وأنها سهلة، وأنها غير مكلّفة؛ أمَّا إيماناً يدخل فيه الموقف، يكون الموقف جزءاً منه، تكون المسؤولية جزءاً أساسياً منه، أمَّا الإيمان الذي يستند ويعتمد على اليقين، على الثقة بالله -سبحانه وتعالى- فكان غائباً عنهم، ولذلك لم يمكن أن تنجح آمالهم، رغباتهم، آراؤهم تلك في أن يتحول ذلك الالتزام الجزئي، وتلك النظرة القاصرة، وذلك المفهوم الناقص إلى إيمانٍ بالمعنى الحقيقي، وإلى إيمانٍ بالمعنى أو بالمصداقية التامة، وإلى التزامٍ تام، لم يمكن ذلك.
ولربما كل هذه الحالات- وبلا شك- هي لا تزال قائمةً في واقع الأمة، يعني: الكثير من أبناء الأمة لا يزالون يحملون هذه الرؤية الأعرابية، التي هي غير الثقافة القرآنية، غير المفهوم القرآني،نه أنه أ غير المفهوم الصحيح والأصيل للإيمان، المفهوم الأعرابي: الذي يرى من الإيمان حالةً مزاجية تخضع لرغبة النفس، تخضع للمعايير الشخصية، والاعتبارات الشخصية، والمزاج الشخصي، فيأتي الإنسان ليختار من هذا الدين البعض الشيء اليسير، الشيء القليل، ويرى في الالتزام الشكلي والمحدود به حالةً كافية، وحالةً إيمانيةً تامةً ومكتملة، وهذا خطأٌ جسيم، ومضرٌ بالإنسان، ومضرٌ بالأمة، ومضرٌ بالمجتمع، فالله -سبحانه وتعالى- لم يقبل من الأعراب أن يقدِّموا هذا الشكل، هذا المستوى الناقص القاصر المحدود؛ لأنه بحد ذاته يعبِّر عن نقص كبير بدءاً من حقيقة الانتماء، من حقيقة الاستيعاب لتلك المبادئ العظيمة والمبادئ المهمة.
ثم يقدِّم القرآن الكريم النموذج الصادق، ويختار عنوان الصدق ليكون هو العنوان المعبِّر بالفعل عن الانتماء الحقيقي، عن الانتماء الذي يرضي الله -سبحانه وتعالى- ويمثل الانتماء الواقعي الصادق، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، هم يتحلّون باليقين، بالثقة بالله -سبحانه وتعالى- إيمانهم هو إيمانٌ صادق لا ارتياب معه، لا شك معه، فهم أولاً فيما يتعلق بوعد الله ووعيده لم يعانوا من حالة الارتياب، لم يصبهم الشك والقلق، لا، عندهم اطمئنان تام بكل وعد الله، عندهم ثقة قوية بالله -سبحانه وتعالى- وعندهم يقين بما وعد الله -سبحانه وتعالى- {ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا}، على مستوى وعد الله ووعيده، على مستوى الحق الذي ينتمون إليه، يعونه، يلتزمون به، يتمسكون به، لا ارتياب عندهم أبداً.
{وَجَاهَدُوا}، هم ليس فقط اهتموا بالشعائر الدينية، والالتزامات الدينية على المستوى السلوكي، على مستوى المعاملات؛ وإنما مع ذلك أيضاً كان لديهم هذا الجانب المهم في الإسلام: التحلي بالمسؤولية، المواقف الصحيحة، التحرك الصحيح، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، الإنسان إذا وصل إلى هذا المستوى في انتمائه الإيماني: إلى مستوى الجهاد بالمال والنفس، فمعنى ذلك بالتأكيد: أنه فيما دون ذلك من الالتزامات الدينية، من الشعائر والأعمال هو مهتم، هو ملتزم؛ لأن هذا هو ما قد يتهرب منه الكثير من الناس مع التزامهم بما هو دونه من الأعمال التي يرونها سهلة، من الالتزامات التي يرونها بسيطة، من الأعمال التي يرونها غير مكلفة.
ثم يأتي القرآن الكريم في آياتٍ كثيرة ليقدم لنا كذلك المواصفات التي تعبِّر عن المصداقية في هذا الانتماء، والتي تتناول كل جوانب الحياة، كل واقع الإنسان، في كل مجالات حياته، سواءً في سورة المؤمنون… أو في آياتٍ أخرى، وسنأتي- إن شاء الله- لنتحدث عن هذا الجانب في هذا السياق، وفي هذه الكلمة.
إنما من المهم أن ندرك قبل ذلك أننا عندما نتحدث عن الإيمان، وعن الانتماء الإيماني، لا تكمن فقط أهمية الحديث عن هذا الجانب باعتباره الانتماء الأساسي للأمة الإسلامية، وجانبٌ مهمٌ جداً في حسابه الديني، وفي أهميته الدينية؛ إنما أيضاً كحاجة نحتاج إليها في واقع حياتنا، كما قلت: نحن نواجه في هذا الزمن وبطبيعة ظروف الحياة المشاكل والتحديات والأخطار الكبيرة، وأهم عنصر قوة نستفيد منه في مواجهة هذه التحديات، والأخطار، والأعداء، والفتن، والمشاكل، والصعوبات، أهم عنصر قوة يمكن أن نستفيد منه، وأهم عاملٍ للتماسك والثبات والقوة في مواجهة كل التحديات، وكل الصعوبات، وكل الأخطار، وكل الأعداء، هو الإيمان، فلذلك نحن نتحدث عمَّا نحن بأمسِّ الحاجة إليه، عمَّا ليس الحديث عنه كأمرٍ ثانوي، وكقضيةٍ هامشية، وكمسألةٍ بعيدةٍ عن واقع حياتنا، وعن احتياجنا. لا، نحن نتحدث عمَّا نحن بحاجةٍ إليه، عمَّا نحن في أمسِّ الحاجة إليه؛ لأننا نواجه التحديات والمشاكل الكبيرة جداً.
عندما نأتي إلى كل واقعنا، ما نواجهه من تحديات ومخاطر على حياتنا على المستوى العسكري، على المستوى الأمني، على المستوى الاقتصادي… على كل المستويات، وفي كل المجالات، أهم عنصر قوة، أهم عامل لمواجهة كل هذه التحديات، كل هذه الصعوبات، كل هذه الأخطار، هو الإيمان، الإيمان بمفهومه الصحيح، الإيمان وفق الانتماء الصادق، الإيمان بأصالته التي تمثل امتداداً لما كان عليه رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- الإيمان وفق مفهومه القرآني الصحيح والمتكامل، هذا الذي نحتاج إليه، وهذا الذي نرى آثاره المهمة والعظيمة في محطات من تاريخ أمتنا في عصر رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- هذا الذي نرى أثره الكبير بعد أن دخل شعبنا في ذلك الزمن في هذا الإسلام، وعندما انتمى هذا الانتماء، كيف كانت مسيرة حياته، كيف ترك هذا الانتماء أثراً كبيراً وعظيماً ومهماً في حياة الناس آنذاك، وكذلك في الإنسان نفسه، كيف هو الأثر الذي يتركه في الإنسان أولاً، ثم في حياة هذا الإنسان ثانياً.
عندما نأتي إلى هذا العصر ونتأمل في واقع الحياة من حولنا، واقع المجتمع البشري من حولنا، هذه الأمم المنتشرة على أقطار الأرض، وفي أنحاء المعمورة، ونرى ذلك الشعب وذلك الشعب له هويته، ثقافاته، عاداته، تقاليده، مفهومه الذي ينطلق منه في واقع هذه الحياة، الذي يبني عليه مسيرة حياته، يبني عليه سلوكياته، يصنع من خلاله مواقفه، يحدد من خلاله مسارات حياته، نعود إلى واقعنا نحن كأمةٍ مسلمة، ونرى أنفسنا نعيش ظرفاً لربما يختلف عن كثيرٍ من الأمم اختلافاً كثيراً؛ لأننا أكثر الأمم في هذه الأرض استهدافاً، ومنطقتنا هذه تعيش من المشاكل والأزمات والتحديات والأخطار والمعاناة ما لا تعيشه أمةٌ أخرى.
اليوم معاناة المسلمين بين كل المجتمع البشري هي المعاناة الأكبر، التحديات التي يعيشونها والمشاكل والأزمات هي الأكثر مما يعيشه أيُّ مجتمع آخر، هذا أمر يدعونا ويلفت نظرنا إلى التأمل: ما هو السبب؟ ما هي مشاكلنا هذه؟ لماذا تتجه الكثير من الكيانات في هذه الأرض، في مقدِّمتها طغاة هذا العصر، قوى الاستكبار والشر والإجرام للتركيز علينا كمجتمعٍ مسلم أكثر من غيرنا، لاستهدافنا بشكلٍ عدائي، استهدافاً شاملاً لا يقتصر أبداً على المستوى العسكري، وهم في كل يومٍ يقتلون من أبناء أمتنا: إمَّا بشكلٍ مباشر، وإمَّا عبر عملائهم من هذه الأمة، ومن المنتمين لهذه الأمة، هذا الاستهداف المكثف لهذه الأمة على المستوى الثقافي والفكري، على المستوى الاقتصادي… على كل المستويات، وفي كل المجالات، هذا الاستهداف لنا والذي يركِّز على عناوين مهمة، وجوانب أساسية بهدف إضعافنا أكثر، وبهدف السيطرة علينا أكثر، وبهدف إبعادنا عن كل عناصر القوة التي يمكن أن نستفيد منها في مواجهة هذه التحديات، لماذا؟.
للأسف الشديد وصلت الحالة بالكثير من أبناء الأمة أن عاشوا حالةً من نقص الوعي، ومن عدم الفهم بالعدو، بالواقع، بالظروف، بطبيعة الأحداث، بأسباب كثيرٍ من المشاكل، بخلفيات كثيرٍ من المواقف، إلى درجة عدم التمييز من نحن ومن هو هذا العدو الذي يستهدفنا، وما مستوى هذا الاستهداف، ثم عدم الوعي بمستوى الخطر الذي نعيشه، وأهمية أن نعود بكل جد إلى عناصر القوة لنستفيد منها في مواجهة هذه الأخطار، الكل يشعر بالمعاناة، الكل يتضايق من هذا الواقع الذي تعيشه الأمة، مستوى المعاناة، مستوى البؤس، مستوى المشاكل، مستوى التحديات أصبح بالرغم من حالة انعدام حالة الوعي لدى الكثير من أبناء الأمة، لكنه أصبح على نحوٍ يؤثِّر على الجميع، يدركه الجميع، حتى أموات الأحياء من هذه الأمة، الذين فقدوا الإحساس، فقدوا الوعي، فقدوا الاستشعار لكثيرٍ من الأمور المهمة، فقدوا الإحساس بالكرامة، فقدوا الإحساس بالعزة، فقدوا قيمة هذا الإسلام في كلما فيه من قيم عظيمة، ومبادئ عظيمة، وتشريعات عظيمة، لو أخذت بها الأمة، حتى هؤلاء باتوا يدركون أنَّ الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية بشكلٍ عام في مختلف بلدانها وأقطارها هو واقعٌ مؤسف، وواقعٌ يتضايق منه الجميع، وواقعٌ يجب البحث عن مخرجٍ منه، عن معالجةٍ لمشاكله، وبناءً على ذلك عندما نعي أننا أمة مستهدفة، وأنَّ العدو يستهدفنا، ونرى يوماً بعد يوم الكثير من المشاكل، عندما نتأمل في واقعنا نجد أنَّ كثيراً مما نعانيه ليس وليداً لظرفنا، وليس طارئاً على حياتنا، نحن أمة- للأسف- لها كثير من المشاكل المتراكمة على مدى الزمن، عبر قرونٍ من الزمن تراكمت الكثير من المشاكل، من المعاناة، من الأخطار، من العوامل السلبية التي أضعفتها، أثَّرت عليها، أثَّرت في واقع حياتها، تركت تأثيراً سيئاً في كثيرٍ من أمورها.
كثيرٌ من القيم الإيمانية العظيمة والمهمة فُقدت في واقع هذه الأمة، وغابت عن واقع هذه الأمة، ليس فقط نتيجةً للاستهداف الخارجي، ليس فقط بفعل ما يقوم به أعداء الأمة من خارج الأمة، ولكن على مدى الزمن لعبت تلك الفئات: فئة النفاق، ولعب الطغاة، والجبارون، والمضلون، وعلماء السوء، والجبابرة من داخل الأمة دوراً أساسياً في عملهم وسعيهم لتغييب تلك المفاهيم، تلك المبادئ، تلك القيم من واقع الأمة، حتى غابت في كثيرٍ من الزمن، في كثيرٍ من الأحيان، في كثيرٍ من الأقطار عن الواقع؛ حتى باتت النظرة إلى الدين نفسه، إلى الإيمان نفسه، إلى الإسلام نفسه، وكأنه لا يحمل تلك القيم، وكأنها ليست جزءاً منه، وكأنها ليست أساسيةً فيه، وكأنها ليست في جدول أعماله، وكأنها ليست جزءاً من برنامجه للحياة، وكأنها ليست جزءاً أساسياً منه كمشروعٍ للحياة؛ فغابت العدالة، وأتت الشرعنة للظلم، الشرعنة للطغيان من علماء السوء الذين برروا ذلك، وأتت حالة الانحراف التي نراها ماثلةً أمامنا في كيانات، في أنظمة، في حكومات، في جماعات تنتمي لهذه الأمة، وتقدِّم نفسها كجزءٍ من هذه الأمة، ثم هي تفعل كلما هو محرم في هذا الدين، ترتكب أبشع الجرائم، تعتدي، تظلم، توالي أعداء الأمة، تقف في معسكر أعداء الأمة، تتآمر على أبناء هذه الأمة… تفعل الأفاعيل الشنيعة والفظيعة التي لا تنسجم بأيِّ حالٍ من الأحوال مع هذا الدين، مع الإيمان في كل مضمونه، في مبادئه، في قيمه، في أخلاقه، في شرعه ونهجه.
ولذلك نعود للحديث عن أنَّ الإيمان إنما هو منظومة متكاملة، منظومة من المبادئ، من القيم، من الأخلاق، من الالتزامات العملية، وأنه يبني لهذه الأمة بنيةً مستقلة نتاجها حضارة عادلة، حضارة متميزة، حضارة تقوم على أساسٍ من تلك المبادئ والقيم، الإيمان هو للحياة، ليس شيئاً ثانوياً، ليس خاصاً بالمساجد، ليس مجرد شعائر وطقوس، الإيمان هو للحياة بكلها وبكل ما فيها، ولذلك أتى القرآن الكريم ليقدم لنا الإيمان أولاً كصلة بالله -سبحانه وتعالى- بكل ما لهذا من مدلول مهم وعظيم، الإيمان يجعلنا على اتصال بالله، اتصال بهدايته، برعايته، بتوجيهاته، بتعليماته، بمعونته، بتوفيقه… بكل ما يمكن أن يكون لهذه الصلة من تأثير كبير جداً في الإنسان نفسه، في الأمة كأمة، والمجتمع كمجتمع، في الواقع بنفسه.
ولهذا يأتي في القرآن الكريم الحديث الواسع عما يعنيه هذا الانتماء الصادق، وما يمثله من علاقة بالله -سبحانه وتعالى- من صلة برعايته، بهدايته، بتوفيقه، بمعيته، فالله -جلَّ شأنه- {مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}، معهم بكل ما تعنيه هذه العبارة المهمة جداً، معهم يهديهم، هو وليهم، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا}[محمد: من الآية11]، مولاهم يتولاهم برعايته، بتوفيقه، بمعونته، بنصره، بتأييده، برعايته الشاملة، بألطافه الكبيرة، بكل ما يمثل هذا من أهمية، سواءً في معادلات الصراع، في مواجهة مشاكل هذه الحياة، في تحدياتها… إلى غير ذلك، لهذا أثر كبير، أثر كبير في الواقع نفسه، ما يأتينا من الله -سبحانه وتعالى- من خلال هذه الصلة، وبأثر هذا في نفسية الإنسان، في مشاعره، في معنوياته العالية، فلذلك نراه كما هو صلة بالله -سبحانه وتعالى- هو يمثل عنصر قوة على المستوى المعنوي، والجانب المعنوي هو أول ما نحتاج إليه، في مواجهة التحديات، والأخطار، والأعداء، والصعوبات، والمشاكل، والتحديات، أول ما نحتاج إليه هو الجانب المعنوي، الحالة المعنوية من الاطمئنان، من الثقة بالله -سبحانه وتعالى- من الشعور بمعية الله -سبحانه وتعالى- أنك مع الله، وأنَّ الله معك، من الرجاء في الله -سبحانه وتعالى- هذا الرجاء المفتوح الذي يجعلك لا تيأس أبداً مهما كان حجم الصعوبات، والتحديات، والمعاناة، والأخطار، أنت ترجو الله دائماً، أملك بالله أملٌ كبير، ثقتك به ثقةٌ عظيمة، أنت تتوكل عليه، أنت تؤمل وترجو فضله، أنت تؤمن به، برحمته، بفضله، بكرمه، بوعده الصادق، هذه القوة المعنوية التي يحتاج إليها الإنسان تحمي هذا الإنسان من الإخفاق، من الانهيار، تحمي هذا الإنسان من اليأس، تحمي هذا الإنسان من الإحساس بالهزيمة، من الشعور بالهزيمة، تحفظ لهذا الإنسان تماسكه وثباته وقوته، ليس فقط هكذا، بمعنى: لا تقتصر المسألة على أنَّ حالتك الإيمانية، واعتمادك في الإيمان على تلك المبادئ، ثقتك بالله -سبحانه وتعالى-…إلخ. هي بنفسها التي توفر هذه الحالة المعنوية؛ إنما أنت على اتصال برعاية معنوية من الله -سبحانه وتعالى- الله الذي قال -جلَّ شأنه-: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}[الفتح: من الآية4]، الله -جلَّ شأنه- هو الذي يقول: {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا}[الكهف: من الآية14]، الله هو الذي يمنحك أيضاً هذا العطاء المعنوي المهم جداً، المتمثل بالسكينة، المتمثل بالاطمئنان، المتمثل بالربط على القلب، بما يوفر من طاقة معنوية هائلة جداً، تساعدك على الثبات مهما كانت التحديات، مهما كانت المخاطر، مهما كانت الضغوط، مهما كانت المعاناة، تقف بتلك المعنوية العالية، بتلك السكينة. فيما يعيش البعض حالةً من الانهيار النفسي، من الهزيمة النفسية، من الانكسار المعنوي، من السقوط على المستوى النفسي والمعنوي، من اليأس؛ أنت تكون بعيداً عن كل ذلك، تعيش بذلك العطاء الإلهي، بتلك الرعاية المعنوية الإلهية حالة السكينة، حالة الاطمئنان، حالة الربط على القلب، حالة رباطة الجأش، هذا يؤهلك كإنسان، يؤهل المجتمع كمجتمع للتحرك في أهم المسؤوليات، وللتصدي لكل المخاطر، ولمواجهة كل التحديات.
فلذلك نرى فيه عنصر قوة تحتاج إليه الأمة، ونحن في مرحلة مهمة تعيشها الأمة في التحديات والأخطار؛ لأن الأمة واجهت التحديات والأخطار الخارجية، في الوقت الذي كانت هي مثقلة ومعانية من مشاكلها الداخلية، من تراكمات الماضي، من المشاكل الكثيرة التي هي نتاجٌ للاختلالات التي أحدثتها في داخل الأمة تلك الفئات المريضة، تلك الفئات السلبية المنحرفة، من المنافقين، من الطغاة والجبارين، الأمة أتت في هذه المرحلة من تاريخها إلى مواجهة التحديات الكبيرة من أعدائها، وهم أولئك أعداؤها في ذروة ما هم فيه من إمكانات، من نهضة، من تمكن، من قوة، من تطور، وهي مثقلة، الأمة في نفسها مثقلة كحالة المريض المثقل بمرضه، حالة المريض الشديد المرض، بأفاعيل أولئك الجبابرة والظالمين والمفسدين والمضلين، الذين لعبوا دوراً سلبياً في داخل الأمة، ولكنها تمتلك هذه العناصر من القوة التي تجعلها تتعافى من كل تلك الجراح، من كل تلك الأضرار، من كل تلك الآثار، يجعلها تتعافى، وتقوى، وتنهض، وتواجه كل التحديات، عظمة هذا العنصر المهم الذي هو الإيمان في مفهومه الحقيقي، في منظومته المتكاملة من مبادئ، ومن أسس، ومن قيم، ومن أخلاق، ومن برنامج عملي، عظمة هذا العنصر أنه بالشكل الذي يجعل الأمة تنعتق وتتخلص من كل أعباء تلك الآثار والأضرار التي ألحقها بها أولئك المضرون من الداخل، أولئك المفسدون من الداخل، تلك الفئات المضلة والمفسدة، والتي أضرت بالأمة، وتواجه الخطر والتحدي الخارجي من أعدائها الذين لا ينتمون إليها، ولا ينتمون إلى هذا الدين، كما هو الخطر الأمريكي، كما هو الخطر الإسرائيلي الذي تواجهه الأمة في هذا الزمن.
فهذه الصلة بالله -سبحانه وتعالى- وهذه القوة المعنوية المهمة جداً، التي تجعل الأمة على المستوى المعنوي في مستوى التحمل، في مستوى الثبات، في مستوى القوة المعنوية والقوة النفسية بعيداً عن حالة اليأس، بعيداً عن حالة الهزيمة النفسية، بعيداً عن كل تلك الحالات السلبية، هذا عامل مهم جداً، عامل مهم جداً.
إضافة إلى الدافع، الأمة بحاجة إلى دافع، دافع للعمل، دافع للتحرك، دافع حتى لمواجهة التحديات والأخطار، دافع للنهضة الحضارية التي الأمة في أمسِّ الحاجة إليها؛ حتى لا تبقى أمةً تحتاج إلى أعدائها في كل شيء: في قوتها، في غذائها، في ملبسها… في كل احتياجاتها، وتبقى أسيرةً لهذا الاحتياج، خانعةً لتحكمهم، لضغوطهم، لأساليبهم في حصار هذه الأمة، وفي التحكم بها، وفي الحصار لها، وفي الحظر الاقتصادي عليها، أمةً تبني هي حضارةً متميزة وراقية وعادلة، وقائمة على أسس ومبادئ عظيمة تجعل منها حضارة متميزة.
الأمة بحاجة إلى هذا الدافع، هذا الدافع يوفره الإيمان، لا دافع أقوى من دافع الإيمان يجعل الإنسان ينطلق في تحمل المسؤوليات، ينطلق ليعمل، ينطلق بعيداً عن الكسل والملل والفتور، إيمانه بالله، رجاؤه في الله، خوفه من الله، وعيه بحقيقة هذه الحياة، إيمانه باليوم الآخر، إيمانه بالجزاء والحساب… كل تلك المنظومة المتكاملة في مبادئها، في أخلاقها، في برنامجها العملي، تصنع عند الإنسان هذا الدافع الكبير جداً، أوليس الكثير من أبناء أمتنا كما هم يعانون من اليأس، كما هم يعانون من الهزيمة النفسية، كما هم يعانون من الشعور بالحقارة، بالإكبار والإعظام للأعداء، والانبهار بهم، والاحتقار للأمة، كما هم يعانون أيضاً من الكسل، من الفتور، من انعدام الروح العملية، كما هم يعيشون حالة التنصل عن المسؤولية، هذا العنصر المهم الذي هو الإيمان بمفهومه الحقيقي ومنظومته المتكاملة، هو يمثل الدافع الذي يُحيي في الإنسان روحاً عملية، يعرف قيمة العمل في هذه الحياة، وبالذات العمل الصالح في كل شؤون ومجالات هذه الحياة.
فنحن نحتاج إلى عنصر الإيمان في القوة المعنوية، وفي الدافع المعنوي، الذي يجعلنا نتحرك عملياً بأملٍ ورجاءٍ، وبإحساسٍ بالمسؤولية، احساس بالمسؤولية، ندرك أننا في هذه الحياة نعيش المسؤولية أمام الله -سبحانه وتعالى- وأننا سنجازى، نجازى إن فرطنا، نؤاخذ ونعاقب إن قصرنا، إن عصينا الله -سبحانه وتعالى- إن فرطنا في مسؤوليتنا المهمة، حتى على المستوى الحضاري، الحضارة بالنسبة لهذه الأمة أن تكون أمةً تتجه لتكون أمةً قوية بكل ما تعنيه الكلمة، قويةً في اقتصادها فتكون أمةً منتجة، أمةً تصنع، أمةً تزرع، أمةً تبني لها حضارة، أمةً تنتج كل احتياجاتها الإنسانية، أمةً تعسى لأن تكون قوية، لا تحتاج إلى أعدائها، بل تمتلك عناصر القوة المادية إلى جانب القوة المعنوية، وتحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي، هذا جزءٌ من دينها، هذا يدخل ضمن التوجيهات الإلهية في قول الله -سبحانه وتعالى-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}[الأنفال: من الآية60]، فتتجه لتكون أمةً قوية، وتدرك ما معنى أن تكون أمةً قوية.
عندما نأتي إلى مبدأ من المبادئ الإيمانية المهمة جداً في الإسلام، وهو مبدأ الاستقلال بمفهومه الإيماني، المنبثق عن مبدأ التوحيد لله -سبحانه وتعالى- الذي يجعل من هذه الأمة أمةً مستقلةً حرةً، لا تعيش حالة التبعية لأعدائها من الكافرين، الذين لهم في اتجاهاتهم، في أفكارهم، في برامجهم، في اهتماماتهم، مسارات منطلقة أولاً بحسب ما هم عليه من ضلال، من كفر، من باطل، ثم في نظرتهم العدائية لهذه الأمة، في موقفهم العدائي المؤكد من هذه الأمة.
الأمريكي والإسرائيلي الذي يتجه اليوم بعضٌ من أبناء الأمة لموالاته، ماذا يريده لنا كأمةٍ مسلمة، حتى لمن يتَّبعونه؟ أليس يريد لهم الهوان والضعة؟ أليس يحقد ويحتقر هذه الأمة؟ يحقد عليها ويحتقر أبناءها، ما يريده لهذه الأمة هو الشر، هو الضعف، هو الضياع، هو الهوان، هو أن تبقى أمةً ضعيفةً تحت سيطرته، تفتقر إليه في كل شيء، يعبث بها، يتحكم بمقدراتها وخيراتها، ينهب ثرواتها، يستغل أبناءها، يجعل منهم العوبةً بيده، يعملون له ما يشاؤه هو ويريده هو فيما يحقق مصلحته هو وليس مصلحة هذه الأمة، هذا ما يريدونه، هذا المبدأ مبدأ الاستقلال أننا كأمة لا يجوز ولا يمكن أبداً بحكم هذا الانتماء الإيماني أن نعيش حالة التبعية لأعدائنا، وأنه لا بدَّ أن نحقق لأنفسنا الاستقلال، ونسعى في هذا الاستقلال أن يكون استقلالاً ثقافياً، استقلالاً لا نعيش فيه حالة التبعية بأي شكلٍ من أشكالها، لا تبعيةً ثقافيةً وفكرية، لنا مفاهيمنا، لنا ثقافتنا، لنا فكرنا، ثقافتنا المنبثقة من آيات الله -سبحانه وتعالى- هذا المبدأ المهم، هذا المبدأ العظيم الذي يبنينا كأمةٍ مستقلة، ويحصننا من العبودية والإذلال والاستعمار لصالح أعداء الأمة، مبدأ إيماني، مبدأ مهم، مبدأ عظيم، ومبدأ بنَّاء، يجعلنا نتجه في هذه الحياة بشكلٍ عمليٍ وبنَّاء، ويحمينا يحمينا من خطر كبير من جانب أعدائنا إن خضعنا لهم في حالةٍ من التبعية.
نجد فيه أيضاً عنصر قوة، يجعلنا ندرك ما معنى أن نكون أقوياء كأمةٍ لتستطيع أن تحقق لنفسها هذا الاستقلال الذي يحاربنا عليه العدو، العدو يحاربنا بكل أشكال المحاربة؛ ليضمن السيطرة علينا، السيطرة التامة، السيطرة الشاملة.
هنا نجد أن مفهوم الإيمان، وأن الهوية الإيمانية، وأن الانتماء الإيماني له أهمية كبيرة جداً كعنصر قوة، وكحاجة نحتاج إليها كأمةٍ مسلمة، فنلتفت من خلال هذه المناسبة إلى هذا المفهوم، إلى مدلول هذا الانتماء، إلى هذه الهوية بكل ما تعنيه، بكل علاقتها بواقع حياتنا.
عندما نعود إلى الإيمان كمنظومة متكاملة في مبادئه، في قيمه، في أخلاقه، ونجد أن واحداً من أهم قيم هذا الإيمان هو العزة، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}[المنافقون: من الآية8]، ونعرف ما معنى أن نكون أعزاء، ما يعنيه لنا هذا في واقع حياتنا، في علاقتنا بالآخرين، في معركتنا مع الآخرين، ندرك قيمة هذا الإيمان، وماذا يراد لنا منه، ماذا يريده الله لنا به؛ لأن الله هو الغني، غنيٌ عنا، غنيٌ عن إيماننا، لكن نحن من نحتاج إلى الإيمان؛ لأن الإيمان تتحقق به العزة، الإيمان في مبادئه وقيمه وأخلاقه تتحقق به العزة، يحقق لنا العزة بكل ما تعنيه، لا نعيش حالة الذل والهوان لصالح أعدائنا، لا نعيش حالة التبعية والارتهان والخنوع لهم والاستسلام لهم. لا، نعيش حالةً من العزة والمنعة والكرامة؛ وبالتالي نتحرر من كل حالات الذلة والهوان والاستسلام والخنوع لأعداء الأمة.
هذه الحالة التي نرى عليها من يوالون أمريكا وإسرائيل، نراهم أمام أولئك في حالةٍ من الذلة، في حالةٍ من الخزي، في حالةٍ من الهوان، أولئك ينظرون إليهم باحتقار، يسمونهم بأسماء متعددة متنوعة، من مثل: البقرة الحلوب… وغيرها، يمتهنونهم، يسخرون منهم، يستغلونهم بشكلٍ واضح ومكشوف، ويتعاملون معهم بلا احترام، بلا كرامة، بلا مقدار، بلا قدر.
ولذلك نحن معنيون في أن نلتفت إلى هذا الانتماء في مدلوله العظيم، وما يحققه لنا مما تطمح إليه النفس البشرية، أوليس من مصلحتنا أن نكون في عزة؟ عزة من الله -سبحانه وتعالى- بتأييده، بمعونته، بنصره، عزة بكرامة وعظمة قيم هذا الدين، هذا الإيمان فيما يعنيه، فيما يتركه من أثر، فيما يصون به هذا الإنسان.
نأتي إلى جانبٍ من جوانب هذه المنظومة الإيمانية المتكاملة: العلاقة فيما بين المؤمنين في واقعهم الداخلي، وما يفترض أن يكونوا عليه، وهناك قيمة من أهم القيم: هي الرحمة، الرحمة كعنوان أساسي جداً في هذا الدين، عنوان مهم وأساسي في هذا الانتماء، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح: من الآية29]، يقول الله -سبحانه وتعالى- يقول أيضاً: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}[البلد: الآية17]، بكل ما يعنيه مدلول الرحمة، وبكل امتدادات هذه الرحمة في واقع الحياة، علاقة تعاون، تكافل، تآخٍ، فيما تعنيه هذه المفردة المهمة من معنى عظيم يعود إلى واقع الحياة بكله، وما لهذا من أثرٍ مهم في واقع الأمة، الأمة التي إن تحققت في واقعها الداخلي الرحمة، فهي تتكافل، وتتعاون، وتتظافر جهودها، وتعطف في داخلها على بعضها البعض، وتتعامل بالمعروف مع بعضها البعض، وتتعاون مع بعضها البعض بكل ما لذلك من أثر مهم في تعزيز الروابط بين أبناء هذه الأمة؛ فيكونون كالجسد الواحد، فيكونون كما قال الله تعالى عنهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}[التوبة: من الآية71]، فيكونون إخوة بكل ما تعنيه الكلمة، فيكونون أمةً واحدة متعاونة، متظافرةً جهودها بكل ما لذلك من أثر ونتائج مهمة في الواقع.
عندما نعود إلى جانب من جوانب هذا الانتماء الإيماني في إطار هذه العلاقة بالله -سبحانه وتعالى- وهو يتجه إلى جانب مهم جداً من أهم الجوانب على الإطلاق: هو جانب الوعي، والبصيرة، والنور، القرآن الكريم يؤكِّد لنا هذه الحقيقة كواحدةٍ من أهم ما نستفيده من إيماننا بمفهومه القرآني، بمنظومته المتكاملة كما كررت كثيراً، الله -جلَّ شأنه- قال في كتابه الكريم: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[البقرة: 257]، الله -جلَّ شأنه- قال في كتابه المبارك: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ}[الحديد: من الآية9]، هو -جلَّ شأنه- من قال عن كتابه: {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: من الآية57]، هكذا يعبِّر عنه في كل أثره- {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}[النمل: الآية2]- أثره وفائدته وأهميته بما يمثله للمؤمنين من كتاب ككتاب هداية، {هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}، هُدًى يهتدون به، هو بالنسبة لهم مفاهيم، فكر، ثقافة، هو بالنسبة لهم هداية بكل ما تعنيه، وإرشاد إلى كل خير، إلى كل حكمة، إلى ما يحقق رضا الله -سبحانه وتعالى- إلى ما فيه الخير، إلى ما فيه الفوز، إلى ما فيه النصر، إلى ما فيه الفلاح، إلى ما به السعادة… إلى غير ذلك من العناوين المهمة بالنسبة لهذا الإنسان.
فنجد هذا الإيمان عنصر قوة، الأمة اليوم وهي تواجه الكثير من الفتن والمشاكل والتحديات والمخاطر في أول ما تحتاج إليه الوعي، الحاجة الملحة، الحاجة الماسَّة جداً إلى الوعي، عندما تتوفر كل هذه العناصر: النور في كل ما يعنيه من وعيٍ، وبصيرةٍ، وفهمٍ صحيح، وثقافةٍ صحيحة، وفكرةٍ سليمة، ورؤيةٍ صحيحةٍ وسليمة، والعزة، والرحمة، والكرامة، وتلك القيم، وتلك المبادئ، وذلك الاستقلال، وتلك القوة المعنوية، وذلك التوجه لبناء حضارة صحيحة بكل تلك القيم التي تتحول إلى ممارسة عملية، بل حتى إلى عادات وتقاليد ونمط حياة، وسلوك يعيشه الإنسان استناداً إلى تلك القيم، انطلاقاً من تلك الأخلاق، تجسيداً لتلك المبادئ، هذا- في نهاية المطاف- يمثل عاملاً مهماً لإنقاذنا، للحفاظ علينا، لتماسكنا.
نحن في هذا العصر كأمةٍ مسلمة إذا فقدنا هويتنا الإيمانية، فالنتيجة الحتمية المؤكدة هي الضياع، لا يحمي لنا كأمةٍ مسلمة كياننا ووجودنا كأمة، ويحفظ لنا وجودنا كأمة، ويحمينا كأمة، ويدفع عنا المخاطر والتحديات التي نعيشها كأمة، إلا الحفاظ على هذه الهوية، إلا الالتزام بهذا الانتماء بمفهومه الصحيح، والتمسك به بمفهومه الصحيح، وتنقية واقعنا حتى يتطابق مع هذا المفهوم بشكله الصحيح، هذا شيءٌ نحتاج إليه، حالة الاستهداف وما يمتلكه أعداؤنا من إمكانات تؤثر على الكثير من أبنائنا في كل شؤون حياتهم، إمكانات إعلامية هائلة، إمكانيات للغزو الثقافي والفكري، وللتضليل وللإفساد، تؤثر على الكثير من أبناء أمتنا في مفاهيمهم، في ثقافاتهم، في تفكيرهم، وحتى في نمط حياتهم، وفي سلوكهم، وفي أعمالهم؛ ثم بالتالي في واقعهم، حالة خطيرة جداً، حالة تساعد العدو على أن يسيطر علينا.
العدو إذا سيطر على أفكارنا، العدو إذا سيطر على مفاهيمنا، العدو إذا أثَّر علينا في سلوكياتنا وحياتنا وعاداتنا وتقاليدنا، العدو إذا تغلغل إلى واقع حياتنا وأصبح متحكماً بتفكيرنا وبسلوكياتنا وأعمالنا؛ حينها سيكون- بلا شك- مسيطراً علينا، ومتحكماً بنا، ومسيطراً على واقعنا بشكلٍ تام، حينها نضيع، نضيع، نصبح أمةً مستغلة، وهل العدو يريد لنا الخير؟ لا، هم كما قال الله عنهم: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ}[آل عمران: من الآية119]، هم كما قال الله تعالى عنهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}[البقرة: من الآية105]، لو استطاعوا أن يقطعوا عنا حتى الأكسجين في هذه الدنيا لأوقفوه عنا وقطعوه عنا، لو استطاعوا لحجوا عنا نور الشمس، لو استطاعوا لسلبوا منَّا كل خيرٍ حتى من الله، فكيف يمكن أن يريدوا لنا الخير من أنفسهم ومن عندهم، كل سياساتهم، كل برامجهم، كل توجهاتهم التي يستهدفوننا بها هي تصب في اتجاهٍ واحد، ولتحقيق هدفٍ واحد: هو السيطرة التامة علينا، عندما يسيطرون على الأفكار، على الثقافات، على المفاهيم، حتى على نمط الحياة، والبعض يندهش لهم، يتأثر بهم، ينبهر بهم، ثم يسعى لتقليدهم، ثم يتقبل كل ما هو آتٍ من عندهم، وهو في هذه الحالة يصبح تحت سيطرتهم، السيطرة عليه تحققت بشكلٍ تلقائي، في مثل هذه الحالة نعيش حالة الضياع، لا نستطيع حتى أن نبني لنا حضارة إذا فقدنا هويتنا الإيمانية؛ لأنهم لا يريدون لنا أن نكون أمةً قوية، لا يريدون لنا أن نكون حتى في واقعنا الاقتصادي أمةً قويةً في اقتصادها، متمكنةً في اقتصادها، انظروا حتى إلى أولئك الذين يوالونهم ويقفون في صفهم ما هو حالهم؟ ما هو وضعهم الاقتصادي؟.
أكبر ما يبنون واقعهم عليه هو أن يكونوا سوقاً لا أقل ولا أكثر، سوقاً، وهذا ما يريدونه لنا على المستوى الاقتصادي: أن نكون سوقاً لهم، أن ينهبوا الطاقة بشكلٍ خام، كل المواد الخام الموجودة في بلداننا أن ينهبوها: النفط، المعادن، الخيرات، كمادة خام أن تنهب، ثم أن يستغلوها هم، أن يستفيدوا منها هم، وأن يسوقوا البعض منها، وقد يكون مشوباً بالكثير والكثير من المضار، أن يسوقوه إلينا، ثم نجعل من أنفسنا سوقاً استهلاكية.
أما أن نكون أمةً تمتلك المعرفة، والعلم، والانتاج، وتحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي، وتكون قويةً بكل ما تعنيه الكلمة في اقتصادها بقوة انتاجها، فهذا ما لا يسمحون به، ولا يريدونه لنا كأمة.
انظروا مثلاً إلى البعض من دول الخليج، هذه الإمارات العربية المتحدة كنموذج كل بنيتها الاقتصادية هي بنية سوق، الحالة التي تعيشها مثلاً المملكة العربية السعودية كذلك على المستوى الاقتصادي، هل هي دولة منتجة؟ هل هي كما الصين؟ هل هي كما اليابان؟ مع أن البعض من تلك الدول (دول الخليج) تمتلك من الثروات ما لا تمتلكه اليابان، ما لا تمتلكه الصين، ولكن أين هي على مستوى انتاجها، على مستوى أن تحقق لنفسها الاكتفاء الذاتي حتى في القوت الضروري، أن تنتج من القمح ما يغطي احتياجها؟ هي بعيدة عن ذلك.
أسواق تبنى في منطقتنا، وثروات خام تصدر وتؤخذ لصالح أعداء الأمة، فلذلك حتى على المستوى الاقتصادي، حتى على مستوى مقومات الحضارة من امتلاك العلم، ثم توظيف هذا العلم في بناء حضارة، هذا ما لا يريدونه، هم من قتلوا العلماء واستهدفوا الكثير من العلماء في العراق وفي غير العراق، هم من يحرصون على أن تكون السياسات التي تبنى عليها مناهجنا التعليمية بالشكل الذي يبني واقعنا على حسب ما يريدون ويرغبون، وواقع الأمة حتى بالنسبة للذين يوالونهم هو معروف واقعٌ غير بنَّاء.
فالإيمان بمفهومه القرآني الصحيح وبمنظومته الكاملة هو عنصر خلاص، عنصر حرية، هو عاملٌ أساسيٌ لتماسك الأمة، هو عاملٌ رئيسيٌ تحتاج إليه الأمة لتواجه كل هذه التحديات وكل هذه الأخطار، ولتصحح وضعيتها، ولتنقذ نفسها في واقعها، وفي مواجهة التحديات والأعداء؛ فلذلك نحن بحاجة إلى العناية بالهوية الإيمانية، إلى أن نرسِّخها؛ لأنها عملية تربوية، وعملية تعليمية، وعملية نحتاج إليها كعادات وتقاليد ونمط حياة.
لاحظوا، بقدر ما بقي لنا من هذه الهوية، واستفادتنا الكبيرة منه في مواجهة هذا العدوان الذي نعاني منه، العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي الإسرائيلي الغاشم، عندما نعود إلى أهم عامل لتماسك شعبنا في مواجهة هذا العدان، بالرغم من حجم هذا العدوان، أقول لكم بكل ثقة، بكل يقين: أن أهم عامل هو الانتماء الإيماني، وما بقي لنا في هويتنا الإيمانية، ما بقي لنا من آثار إيجابية معنوية ونفسية وعملية، من أثر على المستوى الاجتماعي، هو الذي مثَّل عامل قوة، هو الذي جعلنا نطمئن ونثق بالله -سبحانه وتعالى- ونعتمد على الله -سبحانه وتعالى- كشعب في مواجهة هذه التحديات وهذا العدوان بالرغم من الظروف الصعبة.
ولاحظوا، في ظل هذا التوجه الذي عليه شعبنا حالياً، في ترسيخ هذه الهوية الإيمانية، في الانطلاقة على أساس هذه المنظومة المهمة من المبادئ والقيم والأخلاق والتعليمات الإيمانية، كيف نزداد قوةً يوماً بعد يوم بالرغم من حجم إمكانات أعدائنا الهائل، بالرغم مما يمتلكونه، بالرغم من مستوى هذه التحديات والأخطار، بالرغم من حجم الصعوبات؛ إلا أننا نرى في الهوية الإيمانية في منظومتها المتكاملة، في مبادئها وقيمها وأخلاقها وأسسها، عامل قوة يبنينا بالفعل، حتى يبني قدراتنا العسكرية.
في الماضي والنظام السابق في هذا البلد كان يحرص على أن ينافس الآخرين في الولاء لأمريكا، ويتقرب إلى أمريكا، ويتودد إلى أمريكا، ويقدم نفسه كحليف لأمريكا، وموالٍ ولاءً تاماً لأمريكا، ثم ما الذي حدث؟ هل حل هذا المشاكل الاقتصادية في البلاد؟ أم أنها تفاقمت مع ذلك؟ هل رسَّخ أمناً واستقراراً في البلاد؟ أم أن المشاكل الأمنية تفاقمت؟ سواءً النظام ما قبل المبادرة الخليجية، أو النظام ما بعد المبادرة الخليجية، ما قبل وما بعد المبادرة الخليجية الحالة الرسمية في البلد كانت قائمةً في سياستها على أساس الولاء لأمريكا، وعلى أساس الاستجابة التامة لأمريكا في كل ما تريده أمريكا، وفي كل ما تطلبه أمريكا، وفي كل ما تحدده لهم أمريكا، لدرجة أن كان السفير الأمريكي في صنعاء هو المسؤول الأول فوق الرئيس، فوق أي مسؤول في هذا البلد، تتنافس السلطة والأحزاب في التودد إليه، في أخذ المكاسب والتنافس على المكاسب السياسية بالاعتماد عليه، يرون فيه القوة الأكبر، ويتعاملون معه باستجابةٍ تامة.
في ظل ذلك الوضع ما الذي تحقق لبلدنا؟ المشاكل الاقتصادية كانت تتفاقم أكثر فأكثر، وهذا معروف، كلنا نعرف، سواءً ما قبل المبادرة أو ما بعد المبادرة، المشاكل الاقتصادية كانت تتفاقم أكثر، المشاكل الأمنية وصلت إلى حد الانهيار الأمني، لم يكن حتى ضباط الأمن والمسؤولون في الأمن في حالة أمن، كانوا هدفاً للاغتيالات، كانت صنعاء وكان غيرها من المدن مسرحاً للجماعات التكفيرية، للاغتيالات، للاختلالات الأمنية المتنوعة بشكلٍ كبير، المشاكل السياسية كانت تتفاقم وبشكلٍ شنيع، الهوية الوطنية تفككت في كل تلك المراحل، ونشأت مشاكل جديدة، العناوين المناطقية برزت في تلك المراحل، ووجدت بيئةً خِصبة، هناك من يشجعها، وهناك من يرعى كل دورها الهدام والتخريبي في داخل البلد، المشاكل بكل أشكالها كانت تتفاقم.
أكثر من ذلك الهوية الإيمانية كانت في حالة خطر، تبعية عمياء للعدو، وهذه التبعية لأمريكا أكبر ما يهدد الهوية الإيمانية، أكبر خطر على شعبنا في هويته الإيمانية كان يتمثل بالتبعية لأمريكا، هذه حقيقة، هذا أمر أكيد لا شك فيه، أكبر خطر يهدد هوية شعبنا الإيمانية، وكان هذا ملاحظاً، الأمريكي كان يركِّز على المناهج التعليمية، وكان يركِّز على السياسة الإعلامية، وكان يركِّز على أنشطة ذات طابع اجتماعي، لكن على نحوٍ هدام، يؤثر على القيم، على الأخلاق، على العادات والتقاليد الحميدة والإيجابية والإيمانية لشعبنا اليمني العزيز، كان يريد أن يسلب من شعبنا الشعور بالكرامة، الشعور بالعزة، الشعور بالاستقلال، كان يريد أن يسلب من شعبنا حياءه، عفته، طهره، قيمه، أخلاقه، وطبيعة الدور الذي تلعبه المنظمات معروف.
حتى على مستوى القدرات العسكرية، حرص الأمريكي على أن يسلب من بلدنا القدرات العسكرية التي تمثِّل سلاحاً لمواجهة أي عدوان خارجي، ونحن وإياكم كجمهور شاهدنا بالأمس ما عرضته القنوات الوطنية والمحلية من مشاهد مخزية للنظام السابق، بعد أن يرسل الأمريكي موظفة أمريكية تأتي إلى اليمن ومعها أعوانها، ويكون دور هذه الموظفة الأمريكية، تلك المرأة الأمريكية أن تتجاوز وتتحدى وتدوس على استقلال هذا البلد، تصل ليسلم إليها سلاح الدفاع الجوي في هذا البلد، ولتشرف هي شخصياً على تدمير سلاح الدفاع الجوي في هذا البلد، ويحضر ما يسمى- آنذاك- بالأمن القومي، ولاحظوا المفارقات العجيبة، الاسم أمن قومي، مهمته ماذا كأمن قومي؟ أن يحمي هذا البلد، وأن يمثِّل هو- بما تعنيه المفردة- أمناً قومياً. يباشر هذا الجهاز بنفسه، بمسؤول من كبار مسؤوليه (عمار)، يذهب هو لينفذ لتلك الموظفة الأمريكية هذه المهمة، وليجمع لها صواريخ وقبضات الدفاع الجوي، لماذا؟ لأن سلاح الدفاع الجوي يستخدم لمواجهة العدوان الخارجي، وأرادوا لهذا البلد في الوقت الذي كان نظامه يواليهم، وسلطته تواليهم، أرادوا له أن يكون مسلوب القدرة في مواجهة أي خطر خارجي، ألَّا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فيقدم تلك الأسلحة، وتأتي تلك المرأة الأمريكية لتشرف وتباشر عملية تدمير ذلك السلاح على أرض اليمن، أين هي الوطنية؟! إذا لم يمتلك الإنسان هويةً إيمانية يمكن أن يفرط حتى بوطنيته؛ لأنه لم يعد ذو قيم، ذو أخلاق، ذو مشاعر حرة بما تعنيه الكلمة.
لاحظوا المفارقة الكبيرة كيف اتجهوا في تلك المرحلة إلى تدمير الدفاع الجوي، إلى تدمير القوة الجوية؛ حتى أصبحت الطائرات تتساقط في وضح النهار في صنعاء وفي غير صنعاء بكل بساطة، قال لك: [عطل فني]، قال: [خلل مدري أيش…]، قال لك:[…] هكذا في غير حرب، كيف اتجهوا إلى إضعاف وحالة من الإهمال والتسيب بحق القوة البحرية، ثم في نهاية المطاف كانت آخر مرحلة يريدونها استكمال تدمير ما بقي من صواريخ بالستية، لولا أن الثورة الشعبية (ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر) أعاقتهم عن استكمال مسار طويل كانوا يعملون عليه لسلب هذا البلد من كل القدرات التي تساعده على الدفاع عن نفسه في مواجهة أي عدوان خارجي، هذا على المستوى العسكري، لكنهم لم يكونوا يتحركون على المستوى العسكري فحسب، كان هذا مساراً واحداً من مسارات متعددة، في كل مجال كانوا يتحركون على هذا النحو: سياسات تسلبنا القدرة، تسلبنا عوامل الثبات، تسلبنا التماسك، تصل بنا إلى الانهيار، الانهيار بهذا البلد هو الهدف الرئيسي الذي كانوا يعملون على تحقيقه بمساعدةٍ من عملائهم الذين كانوا في موقع السلطة، وفي موقع القرار، وفي موقع المسؤولية الأول لحماية هذا الشعب ولحماية هذا البلد.
ولاحظوا، ما أكبرها من كارثة، ما أكبرها من مأساة أن يكون الذين هم في موقع السلطة، في موقع المسؤولية، في موقع القرار، الأداة التي يشتغل عبرها الأمريكي، والتي يعتمد عليها الأمريكي في استهدافه لهذا الشعب، ثم أن يكونوا هم من يتحرك كأداة لتنفيذ تلك المؤامرات بحق هذا الشعب في كل شؤون حياته: على المستوى السياسي، على المستوى العسكري، على المستوى الاقتصادي، على المستوى التعليمي والتثقيفي، في السياسة الإعلامية، في الأنشطة ذات الطابع الاجتماعي؛ لتفكيك المجتمع، وتفكيك المنظومة القيمية والأخلاقية، إن الأمريكي لم يكن يركِّز فقط على أن يسلبنا عناصر القوة المادية؛ إنما كان قبل ذلك ومع ذلك وأهم- بالنسبة له- من كل ذلك يسعى لأن يسلبنا القوة المعنوية، القوة الإيمانية: أخلاقنا، قيمنا، مفاهيمنا، حريتنا، شعورنا بالكرامة، شعورنا بالعزة، كان يريد أن يحول أبناء هذا الشعب إلى وضعية يتقبلون فيها السيطرة الخارجية عليهم، الاحتلال الأجنبي لهم، الإذلال لهم، الإهانة لهم، وهذا ما رأينا أثره في البعض ممن لم يعودوا متمسكين بهذه الهوية الإيمانية لهذا الشعب، فتأثروا؛ فرضوا لأنفسهم بالسيطرة الخارجية عليهم من أعدائهم، إمَّا عبر الأمريكي مباشرة، أو عبر عملائه؛ فيكونون عبداً لعبيد الأمريكي، عبيداً لعبيد الأمريكي، هوان كبير، خسة دناءة.
لاحظوا المفارقة ما بين تلك المرحلة وما بين هذه المرحلة، في هذه المرحلة يأتي الجيش واللجان الشعبية، تأتي الجهات المعنية بالتحديد في الدفاع الجوي أو في الصاروخية لتعمل على تطوير وصناعة القدرات والأسلحة اللازمة للدفاع عن هذا البلد، والحماية لهذا الشعب، ومن ظروف بالغة الصعوبة، في حرب شرسة، وحرب معروفة، وحصار لا مثيل له على هذا البلد، ومع انعدام الموارد المالية التي هي تحت سيطرة الأعداء من نفط وغاز وغير ذلك، في هذه الظروف الصعبة جداً على المستوى الاقتصادي، في ظروف الحرب والاستهداف المستمر على المستوى العسكري، يأتي أحرار هذا البلد ليصنعوا القدرات، أولئك كانوا يدمِّرون، وهؤلاء يصنعون، في الدفاع الجوي صنعوا صواريخ ذات قدرة فائقة، تفوق تلك الصواريخ التي سلَّمها النظام السابق للأمريكي، وخنع وخضع للموظفة الأمريكية وتلك المرأة التي أتت لتكون فوق مستوى أولئك، الذين كانوا يُظهِرون عضلاتهم على هذا الشعب، ويتنمرون عليه، ويتكبرون عليه، ثم كانوا هم الخانعين والأذلاء والصاغرين أمام تلك الموظفة الأمريكية البسيطة، وعندها وعند حذائها أهدروا كرامة بلد، وفرَّطوا في سيادة واستقلال بلد بأكمله، هذا الذي حدث، وهذا الذي يحدث.
ولذلك أنا أقول لشعبنا العزيز ببركة الهوية الإيمانية، ما بقي لنا منها، وما يبقى لنا الآن، وما علينا أن نعززه، وما علينا أن نسعى لاستكماله، سننهض بإذن الله -سبحانه وتعالى- نهضةً حضارية نحقق لبلدنا الاستقلال التام، ونحقق لنا كشعبٍ يمنيٍ الحرية والاستقلال والعزة والكرامة، ونواجه كل هذه التحديات، وكل هذه الصعوبات، هويتنا الإيمانية التي تجعلنا دائماً معتمدين على الله -سبحانه وتعالى- واثقين به، متوكلين عليه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}[الطلاق: من الآية3].
الانتصارات التي تحققت مؤخراً في عملية (البنيان المرصوص)، وما قبلها في عملية (نصرٌ من الله)، والانتصارات الكثيرة التي رأيناها في كثيرٍ من الجبهات، والتماسك الكبير، ونحن في أواخر العام الخامس منذ بداية هذا العدوان، كل هذا يلفت نظرنا وينبهنا إلى ما تعنيه الهوية الإيمانية والانتماء الإيماني لنا، هي ملاذنا، هي أساس قوتنا، هي معتمدنا الذي ننطلق من خلاله في مواجهة كل هذه التحديات، ولذلك نحن معنيون جميعاً أن نعي إيجابية وقيمة وأهمية الهوية الإيمانية، وأن نسعى لترسيخها في واقع حياتنا، وأن نسعى للاحتماء بها من كل التأثيرات السلبية التي تأتي إلينا بكل أشكالها: عبر الحملة والغزو الهائل من جانب أعدائنا وعملائهم ذات الطابع الإعلامي، أو ذات الطابع الثقافي والفكري، التي تسعى لتضليلنا وإفسادنا.
على المستوى الاقتصادي: علينا أن ندرك أهمية ما يعنيه الانتماء الإيماني في هذا الجانب؛ لأننا كأمةٍ مؤمنةٍ مسلمةٍ معنيون أن نسعى لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ولذلك فأصحاب رؤوس الأموال من أبناء شعبنا معنيون ويتحملون المسؤولية أمام الله -سبحانه وتعالى- في أن يسهموا وأن يتجهوا هم في تشغيل رؤوس أموالهم في الإنتاج الداخلي، وفي تحقيق الاكتفاء الذاتي، هذا سيفيدهم هم على المستوى الاقتصادي، ويوفر عليهم الكثير من الكلفة والأتعاب، وفي نفس الوقت يخدم شعبهم، ويخدم أمتهم، ويساعد كثيراً كثيراً في قوة هذا البلد، وفي تماسك هذا البلد.
كثير من الحلول لمشاكلنا الاقتصادية تدخل في إطار هذا المفهوم الإيماني الحضاري، الذي يتجه إلى البناء الداخلي، الذي يتجه إلى عوامل القوة بكل أشكالها وأنواعها: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، أولئك الآخرون الذين كانوا يحاولون أن يرسِّخوا مفاهيم سلبية في ذهنية أبناء شعبنا العزيز، فيرى في نفسه شعباً عاجزاً لا يمكنه أن يربي دجاجةً، ولا أن يوفر أي شيءٍ من متطلبات الحياة ومستلزمات الحياة، وأنه بحاجة إلى أن يستورد كل شيءٍ من الخارج، ويجعلون هذا البلد رهينةً للاعتماد في كل شيءٍ على الخارج، هم ظلموا هذا الشعب، وعلى هذا الشعب أن يتحرر من كل تأثيراتهم السلبية، من كل مفاهيمهم الظلامية، وأن يدرك أن جزءاً أساسياً من انتمائه الإيماني والديني هو يتعلق بالموضوع الاقتصادي، بالنهضة الاقتصادية، بالعمل على توفير كل عوامل القوة من الداخل، بالعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي، وهنا تأتي المسؤولية على الجميع: على الحكومة والمسؤولين، على أبناء الشعب كذلك، الجميع معنيون في أن يكون هذا توجهاً عاماً، كثيرٌ من البرامج والخطط، وكثيرٌ من السياسات التي اعتمدت في الرؤية الوطنية فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي بحاجة إلى تعاون فعلي بين الحكومة والشعب، بين المسؤولين وبين أصحاب رؤوس المال والأعمال، بين أبناء الشعب بشكلٍ عام، النهضة الاقتصادية هي ذات علاقة بالنسبة لنا بإيماننا، بل هي من أهم ما يحتل موقعاً متميزاً وأساسياً في المنظومة الإيمانية، ولذلك نحن معنيون بالاهتمام بهذا الجانب.
عندما نأتي إلى ما يتعلق بالاستمرار في التصدي للخطر العسكري، والهجمة المعادية التي تستهدفنا كشعبٍ يمني، هذا العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي الإسرائيلي علينا أيضاً أن نتحرك بكل جد، بكل استشعارٍ للمسؤولية في التصدي لهذا العدوان طالما بقي مستمراً.
طبعاً نحن ننصح النظام السعودي والنظام الإماراتي أن يوقفوا هذا العدوان، أن يتركوا هذا البلد وشأنه، هذا البلد لا بدَّ له أن يكون بلداً مستقلاً مهما كان حجم التضحيات؛ لأن كل تضحيةٍ نقدِّمها في سبيل الله -سبحانه وتعالى- لنكون أحراراً وأعزاء، ولنكون بلداً مستقلاً لا يخضع بالتبعية للأجنبي، هي أقل بكثير من الخسارة الرهيبة والفادحة لو قبلنا بالاستسلام والخنوع والتبعية لأعدائنا، حينها كنا سنخسر كل شيء.
فلذلك من أهم ما يقدِّمه الإيمان هو- كما قلنا- العزة، وهو أيضاً الاستشعار العالي للمسؤولية، وهو الروح المعطاءة، وهو الموقف القوي والثابت والمبدئي والمتماسك أمام هجمة الأعداء، أمام عدوانهم، أمام بغيهم، الموقف الذي ينطلق من إيمانٍ بالله -سبحانه وتعالى- وثقةٍ بالله، وتوكلٍ على الله -سبحانه وتعالى- ومن استشعارٍ للمسؤولية، ومن عزةٍ في النفس تأبى القبول بالذل، وتأبى الاستسلام، وتأبى الخنوع والخضوع للأعداء، ومن إيمانٍ بعدالة القضية، ومن استعارٍ للمظلومية، ومن إدراكٍ لقيمة الموقف، ومن ثقةٍ بوعد الله بالنصر، هذا يساعد كثيراً على مواجهة هذه التحديات، ويتجه بنا إلى تحقيق الانتصار، وصولاً إلى تحقيق الهدف الكبير بتحقيق الاستقلال التام لبلدنا، هذا ما يجب أن نسعى له، وما يجب أن نرسِّخه وأن نستفيده من خلال مدلول الانتماء الإيماني وترسيخ الهوية الإيمانية، ومن هذا المنطلق ننطلق في كل مواقفنا؛ لأن الإيمان مواقف، الإيمان في النهاية مواقف، التزام عملي حتى في المواقف تجاه مختلف المشاكل والقضايا التي تعنينا.
عندما ننظر في واقع أمتنا، عندنا نرى ما يتجه إليه البعض تحت عنوان التطبيع مع إسرائيل، ويعني ذلك: الدخول في علاقات وروابط مع إسرائيل، فيما يسميه القرآن الكريم بالولاء، الولاء لليهود، الولاء للصهاينة، الولاء لأعداء الأمة، الذي هو محرمٌ شرعاً، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}[المائدة: من الآية51]، والذي هو خيانة بكل تعنيه الكلمة بحق الأمة، خيانة لصالح أعدائها، خيانةٌ لفلسطين مقدسات وإنسان وأرض، خيانة للأمة بكلها، عندما نرى ما يتجه إليه البعض، نحدد نحن دائماً موقفنا على أساسٍ من انتمائنا الإيماني كموقفٍ مبدئيٍ في العداء لإسرائيل، في المناصرة لقضايا أمتنا القضايا المهمة، القضايا الرئيسية، القضايا المصيرية التي لا تقبل المساومة؛ لأننا ننطلق من منطلقٍ إيماني، ونحدد الموقف الذي يفرضه لنا الإيمان.
بينما الآخرون يتجهون اتجاهاً آخر، حتى في توظيف العناوين الإيمانية والدينية لصالح العدو، يذهب أحد علمائهم ليصلي إلى روح الصهاينة اليهود في المحرقة المزعومة، هكذا يفعل! بينما أبناء الأمة المسلمون بأطفالهم ونسائهم، وكبارهم وصغارهم في فلسطين وفي غير فلسطين يقتلون من جانب إسرائيل، من جانب أمريكا، من جانب عملاء أمريكا وإسرائيل، فتأتي المواقف التي تبرر ذلك، وتبرر استهدافهم، وتبرر للعدو ما يفعله بهم، هكذا هي نتيجة الانحراف، وهكذا نحن في هذه المرحلة ندرك جيداً ما تعنيه الهوية الإيمانية، ما تعنيه الأصالة التي تحفظ لنا تماسكنا وثباتنا واستقامتنا مهما كانت الانحرافات من الآخرين، ومن يتأثر بهم، ومن يرتبط به، ومن يتجه اتجاههم، فنعي جيداً ما يعنيه الموقف الحق، ما يعنيه الموقف المبدئي الذي ينطلق من المنطلقات الإيمانية.
فلهذا نحن معنيون في هذه المرحلة المهمة والحسَّاسة أن نواصل مشوارنا في هذا البلد، شعبنا العزيز عليه أن يتذكر بشكلٍ مستمر ما يعنيه (الإيمان يمان)؛ ليكون الإيمان بمنظومته الكاملة هو المنطلق الذي نتحرك على أساسه في مواقفنا، في سياساتنا، في مسيرة حياتنا بكلها.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفِّقنا وإياكم للإيمان الصادق، وللالتزام بالإيمان الصادق، وللاستيعاب لهذا المفهوم العظيم والالتزام به في واقع حياتنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه ؛؛؛