[06/فبراير/2018] سبأ-أنس القاضي
الفنان التشكيلي اليمني وهو بطبيعته الاجتماعية جزء من الحياة البسيطة غير مستقل عن هموم الناس والوطن. وبحسه الجمالي الانساني المُرهف، عبرَّ عن اختلاجاته النفسية العميقة في لوحات عديدة جمالية مقاومة لبشاعة الحرب، وإن كان صدى الانتاج التشكيلي لم يشيع كبقية الفنون الزامل والقصيدة والفلم والأنشودة وهي اشكال فنية يقترن تأثيرها النفسي ببقاء الواقع الاجتماعي العسكري المعاش فتشبع هذه الاشكال الفنية الجانب النفسي الذي يحتاجه الانسان للصمود في ظل بقاء الواقع، ثم تكف تدريجياً عن اعطائه نفس الانفعالات الشعورية في المستقبل بعد تبدل الواقع وتطوره.
لكن المميز في الانتاج الفني التشكيلي انه يخلد روح عصره ولحظته التاريخية ويحمل معه الانفعالات النفسية الى المستقبل فتظل اللوحة تحمل الشعور بالروعة وكان الحدث ما زال راهنا، ويستمر منتوج الفن التشكيلي في اشباع الحاجات الجمالية وإثارة الانفعالات النفسية حتى بعد تجاوز العصر التي انتج فيه.
الفن التشكيلي اليمني في زمن الحرب
تشكل الانتاج الفني اليمني خلال ثلاثة اعوام بتأثيرات هذه المرحلة؛ فعكس موضوعات الحياة الإجتماعية؛ بُبعديها، المظلومية التي يعانيها الشعب اليمني من التدخل العدواني الخارجي الاجرامي والنيران الأهلية المؤسفة التي اشتعلت مرافقة للتدخل الخارجي، وبُعد المقاومة الوطنية اليمنية، والصمود الشعبي والعسكري وهي ملاحم، ستُخلد للأجيال القادمة، والفن التشكيلي هو أحد تلك الاشكال المميزة التي تخلد بها الشعوب قصصها.
ليست الحرب موضوعاً بعيداً عن الفنان الذي يملك نفساَ انسانية شفافة، ولطالما اخذ الفن التشكيلي دوره في المقاومة، وتعد “غيرنيكا” لوحة الفنان العالمي «بيكاسو» التي تعكس آثار تدمير القنابل الألمانية عاصمة اقليم الباسك «غيرنيكا»، أثناء الحرب الأهلية الاسبانية بين 1936 – 1939، ابرز اللوحات التي عبرت عن المقاومة الابداعية لريشة الفنان في مواجهة الطائرات والقنابل المدمرة. سقطت النازية الالمانية وذهب الدكتاتور الاسباني «فرانكو»، وبقيت لوحة بيكاسو حتى اليوم مؤثرة تدين النازية. وستنتهي الحرب العدوانية على بلادنا لتبقى اللوحة الفنية المُعبرة.
لوحة اليمن السعيد، ملامح شعب!
وجه ذو جَلال مُهاب لشيخٍ عتيقٍ يتلألأ في عينه فرحُ الطفولةِ المسروق، انيقٍ موشى بالجمال، في بيت فقير من خلفه عمود نافذة من الخشب ظهرت عليه تجاعيد الزمان، يُطل على ركام الحرب، ومن خلف الركام غيوم صيف واعد يجرحها لون غروب حزين مخضب بدماء الأبرياء، هكذا تبدو البلاد في لوحة اليمن السعيد للفنان التشكيلي اليمني ردفان المحمدي.
حصلت لوحة المحمدي على لقب افضل لوحة عربية في العالم، وهي التي مستوحاة من معانة الشعب وملامح الانسان اليمني المتطلع للحياة كعنقاء أسطورية أخرى.
في مواجهة سؤال عن سر الفن في الحرب، وعن العلاقة بين الإبداع الجمالي والموضوع الانساني والسياسي أعتبر الفنان التشكيلي ردفان المحمدي، بأن للفنان دور ريادي في ترميم الاثار السلبيه في الإنسان، كذلك في تسجيل اللحظات التاريخية بسلبياتها وايجابيتها، بكوارثها الإنسانيه والاقتصادية والسياسية، وبحسب ما قال المحمدي فإنه وفي شتى بقاع العالم حينما قامت الثورات للفن دورا اساسيا في اعادة تكوين الحياة وبناء المجتمعات.
ويضيف المحمدي فقد كان الفنانون: “يعرفون جيدا أهمية الفن في بناء السلام الداخلي كما وان الفن لغة الخطابة الاكثر تأثيرا في المجتمعات وإيصال الرسائل بصوره سريعة وواضحة وعميقة”.
وأشار المحمدي الذي يعمل رئيساً للمنتدى العربي للفنون التشكيلية الكائن في صنعاء، إلى إن: “هناك الكثير من الفنانين عبروا عن واقع الحرب في اليمن وما الت اليه من كوارث انسانيه مؤسفة”.
وأضاف المحمدي في الحديث عن تجربته الشخصية لوكالة (سبأ)، “لا اخفيكم انني حاولت ان اكون بعيدا بلوحاتي عن الحرب، ظنا مني ان ابتعادي عن ذلك سيجعلني سعيدا وسيد الموقف، إلا انني لم أستطع، فوجدت نفسي ارسم عن موضوع الانسان والحرب. منها لوحتي التي فزت بها عالميا لوحة اليمن السعيد، ثم لوحة المدافعون عن الله”.
وفي ذات السياق تحدث المحمدي انه له لوحتان في صدد استكمالهن، تتحدثان عن كارثة الحرب في بعدها الإنساني، وتمنى المحمدي ان تنتهي الحروب ويعود السلام لليمن السعيد وللمنطقة العربية.
الفن مرآة واقع المجتمع
ظهر الفن التشكيلي اليمني الراهن كلحظة واعية لحاجة المجتمع، ورسالة ملتزمة الى حاضر نازف ومستقبل يرتقب. وهنالك العديد من الصور الجماليّة التي تستدعي التأمّل، والتي تُشفر القضية والمعاناة بندف لون وتموج ريشة شاهدة على ما جرى، فمع كل جريمة لتحالف العدوان، غدا كل مشهد مؤثر لوحة خالدة.
وتبرز لوحة “اغتيال الطفولة” للفنان التشكيلي اليمني، زياد العنسي كنموج ابداعي راقي استطاع ان يعكس الواقع وان يُضفي عليه ابعاداً جمالية لا يراها غير قلب فنان متمرس يكشف عنها الغطاء فتتجلى كحضور روحي صوفي، وهذه اللوحة وثقت جريمة طيران تحالف العدوان الذي استهدف مدرسة النجاح للبنات في مديرية نهم 2017، وكانت احد مشاهد هذه الجريمة فتاة مرمية بترت ساقها وسقطت حقيبتها على بعد أوراق من دمها الطاهر المُراق في تربة الوطن.
تحدث الفنان التشكيلي «زياد العنسي» لموقع “المستقبل” عن تجربه تعاطيه الفني مع حدث بحجم العدوان، فاعتبر زياد العنسي بأن الفنان التشكيلي: “يتأثر بكل ما يدور من حوله ويرقب ويرصد لكونه يمتلك أحاسيس فنية عالية”.
وأضاف: “أنا كفنان تناولت في لوحاتي كثيرا مما قام به العدوان السعودي من جرائم ضد الإنسانية من استهداف للمدنيين من النساء والأطفال واستهداف لمصادر الحياة من مزارع ومصانع أغذية وموانئ ومطارات وبنى تحتية واستهداف للتاريخ اليمني من خلال قصف القلاع والحصون والمتاحف.”
المقاومة الفنية لبشاعة الحرب على جدار السفارة السعودية!
يأخذ الفنّ التشكيلي في الزمن المفصلي من حياة المجتمعات مكانته الهامة كوعي ثوري نقيض للوعي السلبي. وقد تحرك الفنانون اليمنيون، ومعظمهم من الجيل الشاب، بحس وطني وإنساني، فأبدعوا لوحات تشكيلية جدارية هي تعبير عن احتجاج ابداعي على جرائم تحالف العدوان التي تتصدره المملكة.
تنوعت هذه اللوحات بين واقعية وسريالية وكاريكاتورية، تتفاوت جماليتها من لوحة لأخرى، ولكنها تأخذ أهميتها بشكل رئيس من الموقع الذي رُسمت بهِ وهو جدار السفارة السعودية، كما تكتسب هذه اللوحات قيمتها من زمنتها باعتبار هذه الجداريات من أُولى الاعمال الفنية المضادة للعدوان، في شهوره الأولى من العام 2015م.
أبو إلياس النجار فنان شاب، كانَ ماراً في أحد شوارع العاصمة وحين شاهد بعض الفناننين يرسمون، على جدار السفارة السعودية طلب ان يشارك معهم فرحبوا به. هناك تعرف على من يشبهونه، ويقاسمونه ذات الاهتمام الفني لقضية تهم سواد الشعب الأعظم.
يرى النجار أن الأعمال الي على جدار السفارة السعودية قد اوصلت رسائل الى المجتمع، وعملت ضجة إعلاميه في حينها، منوهاً ان هذه الظاهرة لم تأخذ حقها من التغطية الاعلامية فيما بعد. كما أعتبر ان الامكانيات المادية احد العوائق التي اوقفت استمرار هذا النشاط.
واعتقد النجار بأنه لو حدث توجه من كل الفناننيين التشكيليين وغيرهم من الفنانيين وأعطوا قضية العدوان والحصار ما تستحقه من الإهتمام، لكان فعلهم هذا مؤثراً. اذ يعتقد النجار بان الفن “له اهمية في تحفيز وتوعية المجتمعات، معتبراً الفن التشكيلي أداة تواصل مفهومة لجميع الناس بتعددهم العرقي وتنوعهم الثقافي واللغوي، من عرب وغيرهم”.
رسم الحياة من دخان الموت
كان واقع العدوان هوَ من حفز الفنانة الشابة «سبأ جلاس» إلى تجريب شكل جديد من الفن التشكيلي، وهوَ تحويل الصورة الواقعية الى لوحة تشكيلية، لكن هذه الصور ليست صوراً عادية، بل صور دخان وحرائق العدوان، حفزت مخيلة الفنان ليخلق من التفافاتها وألسنتها ملامحاً إنسانية لوجوه يمنية ترفض الحرب وتدعو للسلام والحُرية.
وفي تصريح لموقع (DW) قالت سبأ “أعتقد أن ما يحدث في بلدنا يدفعنا لإيجاد طرق متنوعة لدعوة اليمنيين للمحبة، وأجد في الفن أحد الأدوات للتعبير عن السلام والتعايش”. وتضيف: “لطالما كنت إنسانة متفائلة وسعيدة، لكنني صدمت عندما بدأت الحرب”. مشيرة إلى أنها استلهمت فكرة رسم لوحتها “الدخان”، ومن رسومات فلسطينية للدخان الناجم عن القصف الإسرائيلي على غزة.
الحرب والسلام
جايرلي صنعاء في مطلع العام 2016 احتضن معرضاً فنياً، كان من اسمه متصلاً بموضوع الانتاج الابداعي في هذه المرحلة، وهو معرض “الحرب والسلام”، وقد اًخذ اسمه من رواية لأحد كبار الروائيين الروس «ليو تولستوي» وعن معرضه هذا تحدث الفنان التشكيلي «حكيم العاقل» لموقع النور الجديد قائلاً:
“معرض الحرب والسلام جاء بعد العدوان بشهر مباشرة، حين شرعت بإنجاز أول لوحة معتقداً أنني سأرسم لوحة أو لوحتين، لأن الحرب ستنتهي قريباً، لكنّ ذلك لم يحدث، واستمرت الحرب في تدمير كلّ جميل من ذكرياتنا، وكلّ تفاصيل حياتنا في اليمن، فضلاً عن الأثر الذي خلّفته وتخلّفه على الأطفال والنّساء والشيوخ، ناهيك عن تدمير المدارس وقصف المنشآت سواء أكان ذلك في صنعاء أم في بقية المحافظات اليمنية، ولأن صنعاء كانت تتعرّض منذ بداية الحرب لقصف يومي، وجدت نفسي في هذا الجو العام، وبدأت فكرة المعرض عندما أنجزت 5 أو 6 لوحات، فكنت أثناء الحرب أرسم لوحات تحاكيها وأخرى تحاكي السلام، حتى عزمت على إقامة معرض في صنعاء تحت هذا المسمى “الحرب والسلام”.
الخاتمة:
ما كان للوجود الاجتماعي اليمني المسفوح بالحرب والموت والجوع، إلا أن يُعبر عن ذاته في مختلف الفنون. وباعتبار الفناننين شريحة من مختلف طبقات الشعب وتوجهاته فقد كان الفنان هو الآخر موزعاً في خرائط الانقسامات السياسية الموقفية، او محايداً دون موقف علني كان حياده موقفاً خادماً للقوى الرجعية كما قال لينيين!
وفي حين فشل وخان قضيته الفنية الانسانية من آثر دفن علبة ألوانه وتوخى الصمت؛ فقد انتصر الفنان اليمني الملتزم لقضيته الوطنية، اذا لا قيمة للفن بدون التزامه بقضايا الإنسان، وهي لوحات ذات قيمة جمالية عالية وتُعد نوعاً من المقاومة والانتصار بالنظر للإمكانيات الشحيحة التي يملكها غالبية الفنانون في اليمن الذي يعيشون حياة تهميش من قبل الحكومات المتعاقبة، فقد اُهمل الجانب الثقافي والإبداعي اليمني كبقية القطاعات الخدمية والتربوثقافية التي تتكامل لبناء الانسان اليمني الجديد، وهو ما لم تكن ترغب بهِ حكومات الفساد وأنظمة العمالة والتبعية.
فكانت انجازات الفناننيين اليمنيين في هذه الظروف، بحق عملاً جباراً، كما انها في ذات الوقت واجباً وطنياً ومسؤولية اجتماعية لهذا الفنان وذاك، فمن دون أن يعبّر الفن عن أعمق حاجات وتوجّهات عصره ومجتمعه، فليس هنالك أي إمكانية لتحوله إلى فن إنساني خالد، وهو بهذه الحالة يفقد فنيته.
ومن لجأ من الفنانين الى مواضيع منافية لروح اللحظة الوطنية، لم يلق إنتاجهم الفني أي تفاعل، وعلى العكس من ذلك فان شريحة واسعة ممن لم تكن تميل الى التذوق الفني ولا تهتم بقضايا الفن التشكيلي، استمالتها صور اللوحات الابداعية المقاومة، التي تحاكي المأساة، حيث جسدت هذه اللوحات الصرخات الانسانية في صدورهم وعبرت عنها بالون والريشة.
سبأ