[12/ ديسمبر/2019]
أنس القاضي
طرح «زبيغينو بريجنسكي» مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق «جيمي كارتر» و أحد اذكى منظري الإمبريالية الأمريكية المعاصرين نظرية “قوس التوتر”، التي تتضافر مع مشروع امبريالي صهيوني آخر وهو “الشرق الاوسط الكبير”، أخذت تأويلات كثيرة كان اخرها مقولة “الشرق الاوسط الكبير الجديد” التي تبنته ادارة بوش الابن في اواسط العقد الأول من القرن الحالي.
(قوات الغزو الأمريكية في شمال سوريا بذريعة الحرب ضد داعش)
مع مجيء “الربيع العربي” بداية بالانتفاضة التونسية وبعدها المصرية، توجهت طلقة جديدة إلى هذا المشروع، وما تزال الإمبريالية الأمريكية تحاول حرف هذه الثورات وتوجيهها بخدمة ذات مشروعها، إلا أن الانتصارات الاخيرة لمحور المقاومة وهزيمة داعش، سددت ضربةً قويةً جديدة لمشروع الشرق الاوسط الجديد ونظرية قوس التوتر الاستعماريتين.
مأزق القوى المؤمركة
تعيش اليوم القوى المؤمركة في المنطقة مأزقاً بعد فشل تحقيق المشاريع العدوانية الإستراتيجية وإن كانت عملية تنفيذها الفاشلة قد سببت ابلغ الضرر في الدول والمجتمعات المُستهدفة، وقد كانت “إمارة داعش الإرهابية آخر وأقوى الأدوات والأساليب المُستخدمة لإنقاذ الاستراتيجيات العدوانية الإمبريالية الصهيونية، فيما مثل القضاء على “داعش” في العراق وفتح معبر البوكمال السوري الذي يربط براً ما بين طهران وبيروت ودمشق نصراً استراتيجياً لمحور المقاومة.
في الوضع الراهن انتقلت الامبريالية الأمريكية ومعها الكيان الصهيوني إلى تنفيذ مؤامراتها العدوانية -التي تعد امتداداً لاستراتيجياتها المذكورة سابقا- بالاستعانة بالقوى المحلية العميلة، فيما الهدف الرئيسي هوَ ضرب القوى الوطنية الثورية التي تعاظمت قوةً وحضوراً شعبياً وسياسياً من بعد هزيمة “داعش”، وهي الحشد الشعبي في العراق وحكومة «عادل المهدي» وكذلك حزب الله في لبنان والتشكيلة السياسية الحكومة النيابية الذي لحزب الله وحلفاؤه ثقلاً كبيراً فيها، وقوى المقاومة في اليمن وفي مقدمتهم أنصار الله ومازالت الحرب العدوانية على اليمن مستمرة منذ أربع سنوات يتخللها محاولات استهداف للجبهة الداخلية كانت أخطرها “فتنة ديسمبر” 2017م.
(الرئيس الشهيد صالح الصماد يتفقد المواطنين في المناطق المتضررة من فتنة ديسمبر)
الهدف قوى المقاومة وسلاحها
المؤامرات الحالية الذي يجري تنفيذها – باستغلال الفساد والأوضاع الاقتصادية المتدهورة- هي نوع من “الثورات الملونة” الذي جرى تنفيذها من قبل في دول الاتحاد السوفياتي السابق بعد تفككه، وفيما تتجه مطالبات المواطنين إلى اصلاح الاوضاع المعيشية ومحاربة الفساد وتوفير فرص عمل وإسقاط الانظمة السياسية الطائفي “دستور بريمر” في العراق، ودستور “اتفاقية الطائف” في لبنان، كقضايا ملحة ملموسة، يجري حرف الجماهير عن هذه المطالبات العادلة وتحويل العداء والسخط نحو محور المقاومة، وفي مقدمتها الجمهورية الاسلامية الايرانية.
رغم ان الدوافع الاجتماعية للاحتجاج والتي تحرك البسطاء عفوياً هي قضايا الخبز والفساد، إلا انه في هذه الاحتجاجات والتظاهرات برزت شِعارات ومارست ليس لها علاقة بهذه القضايا الداخلية، منها على سبيل المثال مهاجمة القنصلية الإيرانية في العراق في الذكرى السنوية لدخول الثورة الايرانية إلى مقر السفارة الأمريكية في طهران، ومنها رفع شعارات “إيران برع برع” وتأجيج حمى القومية العربية في مواجهة القومية الفارسية، وهتافات مؤيدة للسعودية وغيرها، وفي لبنان تهدف المؤامرة على ضرب التشكيلة السياسية الراهنة التي لقوى المقاومة وحلفائها حضوراً فيها، وجاءت نتيجة تضاعف حضور قوى المقاومة وهزيمة داعش. حظرت في هذه الثورات الملونة هتافات وشعارات تجمع حزب الله مع بقية القوى السياسية الفاسدة “كلن يعني كلن” والقصد منها استهداف حزب المقاومة في لبنان، وتمتد المؤامرات إلى المطالبة بنزع سلاح حزب الله المقاوم واعتباره معيقاً لأداء الحكومة. فعلى سبيل المثال جماهير حزب “القوّات” الذي سارع إلى الاستقالة من الحكومة والنزول إلى الشوارع شاركت بالهتاف على طريقتها (الصهيونية) مستهدفةً سلاح حزب الله، الذي وصفته بـ”الإرهابي”، أي استخدمت الوصف الصهيوني.
(متظاهرون يقتحمون ويحرقون مبنى القنصلية الإيرانية في النجف- العراق)
اليد الأمريكية غير خفية
الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تدبران تستغلان الاحتجاجات في لبنان والعراق للمجيء بحكومتين مواليتين لهما. وبينما قدم سعد الحريري استقالة حكومته، في 29 أكتوبر الماضي، تتمسك بقية مكونات الطبقة الحاكمة بمواقعها، في ظل وعود من الرئيس ميشال عون، ببناء دولة مدنية، وإصلاح الاقتصاد ومحاربة الفساد عبر تحقيقات “لن تستثني أحدا من المسؤولين “. فقوى الاستخبارات بعد فشل الاستراتيجيات السابقة، ترى تحقيق مصالحها في ايجاد الحروب الاهلية وتنمية الأنشطة الإرهابية والصراعات الإقليمية.
(متظاهرون في ميدان التحرير بغداد يوجهون البوصلة نحو العدو الحقيقي للشعب العراقي)
التصريحات الأمريكية وتصريحات السفارات ظهرت في هذه الاحتجاجات فاعلة مؤثرة، حيث تدعي الولايات المتحدة الأمريكية عبر ذلك، بأنها تقف إلى جانب هذه المجتمعات والشعوب، نصرة للديمقراطية!
فيما كانت الجمهورية الاسلامية أذكى، فقامت باستدراج القوى العميلة إلى معركتها، ولم تترك لهم الفرصة للبدء بالضربة الأولى، وكانت الخطوة الايرانية هي رفع سعر المشتقات النفطية على بعض الشرائح الاجتماعية، تقديم هذا الدعم على الطبقات الأشد فقراً في كشوفات الرعاية الاجتماعية وهو الأمر الذي جرى في غضون ثلاثة أيام حيث انتقلت مبالغ الدعم المرفوعة عن النفط إلى حسابات الرعاية الاجتماعية وحين خرجت المظاهرات التي كان يجري التحضير لها في طهران وعدد من المحافظات الايرانية استطاعت الأجهزة الأمنية الايرانية ان تفكك الشبكات المنظمة لهذه الاحتجاجات وتضبط العناصر الاستخباراتية المعادية، فيما كان قمع مثل هذه الاحتجاجات عادلاً لخروجها ضد اصلاحات اقتصادية عادلة، فلم تشارك فيها الطبقات الاجتماعية المسحوقة المستفيدة من هذه الاصلاحات بل اقتصرت على التوجهات اللبرالية والقوميين والطبقات الوسطى ذات الميولات الغربية في نمط التفكير والحياة.
جوهر نظرية قوس التوتر
يتمثل جوهر نظرية قوس التوتر بتفتيت البلدان القائمة بين الباكستان وأفغانستان شمالا إلى باب المندب جنوبا إلى مضيق جبل طارق شمالا وهي بلدان متعددة القوميات متعددة الأديان والطوائف، وغنية بالثروات الباطنية، ومن اجل خيراتها وضعت النظرية الاستعمارية في تفجير الحروب في هذه البلدان وإعادة بنائها من جديد كبلدان اُحادية القوميات وأحادية الاديان وأحادية الطوائف.
جاء مشروع (الشرق الأوسط الجديد ) ليشكل المرحلة الثانية في الإستراتيجية الأمريكية (قوس التوتر). ولذلك عملت الإمبريالية الأمريكية على، العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 1982م وكذلك ضربة “قانا” الأولى واتفاقات “أوسلو” الذي تمخض عنها عنها كيان منقوص للفلسطينيين.
(جنود لبنانيون في بيروت سنة 1982)
تلقى مشروع “الشرق الأوسط الجديد” ضربات متلاحقة إثر انسحاب إسرائيل من قطاع غزة ومن الجنوب اللبناني واشتعال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وجاءت أحداث 11/أيلول /2001 لتدشن المرحلة الثالثة لمشروع الشرق الأوسط الجديد، فاحتلت أفغانستان ثم تبعتها باحتلال العراق وبالوقت نفسه دفعت القوى الانفصالية في السودان.
كما تم تشكيل ما يسمى “تحالف دول الاعتدال العربي” الذي شكل أصلا للتصدي “لطموحات إيران الإقليمية واعتبارها الخطر الأول الذي يهدد الأمن العربي” بدلا من إسرائيل.
ودفعت أمريكا إسرائيل لشن حرب تموز 2006 ضد حزب الله وحرب 2008/2009 ضد حركة حماس في قطاع غزة لكن إسرائيل فشلت فشلا مريعا في هاتين الحربين. وبناء على مشروع الشرق الاوسط الجديد الذي يتعرض لضربات قوية من محور المقاومة، أشعلت أمريكا عن طريق نظام صالح حرب 94 على الجنوب اليمني، وستة حروب ضد انصار الله، من اجل اثارة العصبيات المذهبية والمناطقية والشطرية، وجاء مشروع الستة الأقاليم الغير متوافق عليه في مؤتمر الحوار الوطني اليمني، متناسباً مع هذا المشروع الاستعماري في تمزيق المنطقة.
مع الربيع العربي جاءت الانتفاضة التونسية وبعدها المصرية لتوجه طلقة جديدة إلى هذا المشروع ونظرية (قوس التوتر). وما تزال الإمبريالية الأمريكية تحاول حرف هذه الثورات وتوجيهها بخدمة ذات مشروعها. إلا أن الانتصارات الاخيرة لمحور المقاومة وهزيمة داعش، سددت ضربة قوية اخرى تعرض لها مشروع الشرق الاوسط الجديد ونظرية قوس التوتر الاستعمارية.
وعلى الرغم من الضربات التي أصابت هذه النظرية الإمبريالية، إلا أن الامبرياليين ما يزالون يعتمدون هذه النظرية كإستراتيجية. ومع نجاحهم في تقسيم السودان، هناك تحريك للورقة الأمازيغية، ومؤخراً فشلت محاولتهم في “كردستان العراق”.
وفي سياق “نظرية قوس التوتر” ومشروع “الشرق الأوسط الجديد” ، فإن يجري العمل من أجل تكوين مركز امبريالي عالمي جديد في منطقتنا، ذو طابع صهيوني وفي ذلك خطراً على شعوب العالم أجمعها، وفي هذا المجال أكد الحزب الشيوعي السوري في تقرير لجنته المركزية ، وهو الذي يقف على تماس مباشر بالعدو الصهيوني على ان “الصهيونية هي حركة رجعية عنصرية ذات طابع فاشي تمثل مصالح الرأسمال المالي اليهودي”. ومن خلال هذا التعريف يتضح، ان الصهيونية تقع في تناقض تناحري ليس فقط مع حركة التحرر الوطنية العربية، بل مع الحركة التحررية العالمية. وان على جميع أحرار العالم، يناضلوا ضد الصهيونية بجميع تجلياتها.
هناك مشروع آخر يتقاطع من حيث الهدف النهائي مع المشروعين السابقين، وان كان يطرح على نطاق أضيق، وهو مشروع “الأمة الديمقراطية” الذي يدعو الى دويلات فيدرالية كحل لمشاكل أقليات شعوب الشرق الاوسط، معتمداً على اسلوب “الادارة الذاتية” لهذه الشعوب داخل الدول القومية الأخرى، دون وجود دولة ومؤسسات قوية لهذه الاقليات القومية تدافع عنها امام التوسع الإمبريالي، والنتيجة سيؤدي الى اضعاف الدول وتفتيت المجتمعات وإخضاع شعوب المنطقة أكثر فأكثر للإمبريالية الأمريكية وإسرائيل الصهيونية.