نص الدرس الحادي عشر من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، من دروس عهد مالك الأشتر 16-12-1443 هـ 15-07-2022:
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
وصلنا إلى الحديث عن فئةٍ مهمةٍ من الفئات التي سبق الحديث عنها على وجه الإجمال، ثم ذكرها أمير المؤمنين “عليه السلام” على سبيل التفصيل.
قال “عليه السلام”:
((ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى، مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ، مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَالْمُحْتَاجِينَ، وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ)).
عندما أتى الحديث عن هذه الفئة من أبناء المجتمع، من الذين هم بحاجة ماسة إلى الرعاية الاجتماعية، وإلى العناية بهم، أتى الحث والتأكيد بهذا التعبير المهم، بقوله “عليه السلام”:
((ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ))
استشعر مسؤوليتك تجاه الله “سبحانه وتعالى” بالنسبة لهؤلاء، للعناية بأمرهم، أنت مسؤولٌ عنهم أمام الله، فاذكر الله، وتذكَّر أنك مسؤولٌ أمامه عنهم، فلتبذل اهتمامك، ولتبذل جهدك، ولتبذل كل ما تستطيع من أجل العناية بهم، لا تغفل عنهم، وتتوجه بكل اهتماماتك نحو بقية الأمور، بقية جوانب المسؤولية فيما يتعلق بالمجالات السابقة: التجارة، الصناعة، الجانب الخدمي، الجوانب الأمنية والعسكرية… وغير ذلك، ثم تنسى أبناء المجتمع من هذه الفئة المتضررة، المعانية، التي هي بحاجة إلى الرعاية والاهتمام بها.
((ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى))
وتقدَّم الحديث عما يعنيه هذا التعبير، أنه يقصد من حيث ظروفهم ووضعهم في المجتمع، وظروفهم المعيشية.
((مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ))
يعنـي: لا يمتلكون التدبير والقدرة على اكتساب المعيشة، والأخذ بأسباب الرزق، والسعي لتوفير احتياجاتهم، فهم لا يمتلكون التدبير، والخبرة، والمعرفة لذلك، ولا القدرة، عندهم عجز.
((مِنَ الْمَسَاكِينِ، وَالْمُحْتَاجِينَ))
يشمل هذا التعبير مختلف الفقراء بحسب ظروفهم، البعض مثلاً هم أشد فقراً، وأشد بؤساً وعناءً.
((وَأَهْلِ الْبُؤْسَى))
((أَهْلِ الْبُؤْسَى)): من ذوي الفقر المدقع، والمعاناة الشديدة جداً.
((وَالزَّمْنَى))
الذين يعانون من ظروف صحية، وأمراض مزمنة، أعاقتهم عن العمل، وحالت بينهم وبين التكسب والأخذ بأسباب الرزق، فهم بحاجة إلى مساعدتهم، البعض منهم يحتاج إلى مساعدة للعلاج بشكل مستمر، إضافةً إلى مساعدة في واقعه المعيشي، لتوفير متطلبات حياته الضرورية.
((فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً))
منهم من هو يعيش الظروف الصعبة إلى درجة أن يسأل، أن يمد يده للسؤال، وأن يتسول، والبعض منهم قد لا يصل إلى درجة أن يعرِّض نفسه للسؤال؛ لحرصه على حفظ ماء وجهه، ولتعففه عن ذلك، ولكنه يعيش ظروفاً صعبةً جداً، وعلى كلٍّ ينبغي الاهتمام بالجميع، {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: الآية25]، الكل بحاجة إلى الرعاية والعناية.
وطبعاً في مسألة المتسولين، وفي مسألة الفقراء بشكل عام والمساكين، من ضمن برامج الرعاية الاجتماعية التي ينبغي أن توجه نحوهم، وأن يحظوا بها، ما يؤهل من يمكن تأهيله منهم، من يتمكن مثلاً بالنظر إلى وضعه الصحي لا بأس به، إلى تأهيلهم عملياً، لكسب الرزق، وإلى الحصول على ما يحتاجون إليه من ضروريات الحياة بدون الاستمرار في مهنة التسول؛ لأن امتهان التسول أمر مسيء، وغير محبب، وينبغي السعي للحد منه، لكن بهذه الطريقة التي فيها بدائل، فيها إعانة، فيها إغاثة، فيها اهتمام بهم، وليس منع مع الحرمان والإهمال.
وأيضاً من المؤسف جداً أنَّ البعض يمتهنون التسول، وليسوا بمستوى الحاجة الملحة، التي تصل بالإنسان مثلاً إلى تلك الحالة، يعني: البعض منهم يعتبرها وسيلةً تناسبه- لأنه فقد الشعور بالكرامة- لأن تكون مصدراً للدخل المالي، قد يعتبرها طريقة أيسر عليه من بعض الأعمال، ويجدها موفرة، يستطيع من خلالها الحصول على المال بشكل أفضل من بعض المهن- مثلاً- الصعبة، فالبعض بدافع الكسل، وبفقدانه الحياء والكرامة، يجعل منها وسيلةً للكسب، لا ينبغي أن تكون وسيلةً للكسب، وينبغي فيمن يعانون من ظروف صعبة جداً، صعبة بشكل كبير، أوصلتهم إلى مستوى السؤال والتسول، أن يكون هناك برامج للعناية بهم، وتوفير ضرورياتهم، والتأهيل لهم عملياً بما يغنيهم عن ذلك، ما يرتقي بهم إلى مستوى حصولهم على أرزاقهم واحتياجاتهم الضرورية من مصادر دخل، إمَّا وفق رعاية اجتماعية، أو أيضاً من خلال العمل الذي هُيأت لهم فرصه وأسبابه، وهيأت لهم الظروف العملية له، سواءً يحتاجون إلى تأهيل عملي، يتم ذلك، أو غير ذلك.
((وَاحْفَظِ لِلَّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ))
تعامل مع هذه المسؤولية باهتمام كبير؛ لأنها مسؤولية كبيرة أمام الله “سبحانه وتعالى”، وهي واجبٌ إنسانيٌ، وأخلاقيٌ، وديني، فاسعَ للاهتمام بذلك، لا تهمل، لا تهمل هؤلاء، لا تتجاهل هؤلاء؛ بحجة الانشغال ببقية الأمور، يجب أن يكونوا هم- في العناية برعايتهم، والاهتمام بظروفهم- من ضمن أولوياتك العملية، واهتماماتك الأساسية.
((وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ))
هذه كانت من الموارد المالية آنذاك.
(بَيْتِ المَال): كان عبارة عن البنك في ذلك الزمن (بنك الدولة)، والذي تجمع إليه الإيرادات المالية من مختلف مصادرها المشروعة.
و(الغَلَّاتِ): كذلك الأراضي التي كانت تجبى منها جبايات بحسب الشرع الإسلامي.
وعلى كُلٍّ فالمقصود: أن يكون لهم حصة من الإيرادات المالية، مثلاً: الزكاة، فيها حصة واضحة، ونسبة محددة لهم، أضف إلى ذلك ما يمكن إضافته إلى الزكاة من الموارد الأخرى، يجب أن يكون هناك اهتمام بهم بشكلٍ أساسي، ولا ينبغي التفريط بحقهم في أي ظرفٍ من الظروف، ولا في أي وضعٍ من الأوضاع، الاهتمام بهم من ضمن الأولويات الأساسية.
((وَقِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى))
العناية بهم بشكلٍ عام، وليس وفقاً لفرز، بأي اعتبار، لا اعتبار قرابة، ولا اعتبار منطقة، ولا أي اعتبار، النظرة إليهم نظرة إنسانية، أخلاقية، دينية، بشكلٍ عام بحسب حالتهم وظروفهم.
((وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ))
من واجبك الاهتمام بهم بشكلٍ عام، لا ينحصر الاهتمام بفئةٍ منهم، أو في نطاقٍ محدود مثلاً، بل اهتماماً واسعاً في إطار ونطاق مسؤوليتك بشكلٍ عام.
((وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ))
وفي بعض النسخ: ((وَلَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ نَظَرٌ))
معنـى ذلــك: لا يشغلنك عنهم شواغل أخرى، واهتمامات أخرى، ترى فيها أنها تمثل أهمية، إمَّا أحداث كبيرة، أو مشاكل كبيرة، أو تحديات كبيرة، أو مسؤوليات معينة، يبقى الاهتمام بهم من الأمور المهمة، من الأولويات، يبقى دائماً من الأولويات، فلا يشغلنك عنهم أمور أخرى تنشغل بها، تنظر فيها، وتعتبرها أنها هي تمثل الأولوية لاهتماماتك، وتدبيرك، ونظرك، ومتابعاتك العملية، هذا بالنسبة للنظر.
البطـر كـذلك: لا يشغلنك عنهم البطر بالنعمة، وتضييع المال في أشياء تافهة، أشياء معينة لا تمثل أولوية بمثل ما يمثلونه هم وظروفهم من أولوية، مثلاً: البعض من المسؤولين قد ينشغل ببعض المشاريع، أو ببعض الأعمال، أو ببعض الأشياء التي لا تمثل أولوية قصوى؛ إنما هي تمثل جانباً جمالياً، أو ترفيهياً… أو نحو ذلك، مثلاً: البعض قد يعمل مشروعاً عملاقاً، لكنه لا يمثل أهمية خدمية؛ إنما يمثل مثلاً طابعاً رمزياً، أو يمثل مثلاً جانباً ترفيهياً، أو جمالياً، أو نشاطاً اعتيادياً، مثل: بعض الأنشطة الرياضية، قد لا تكون في ضرورتها وأهميتها تعادل مثل هذا الموضوع الإنساني الملح: معاناة الجائعين، البائسين، المحرومين، المتضررين جداً، الذين لا يجدون لهم ما يأكلونه، لا يجدون لهم ما يحتاجونه للعلاج، ما يحتاجونه للضروريات الحياتية.
فالبعض مثلاً قد يبطر بالمال في مشاريع لا تمثل أهميةً كبيرة، إذا جاء الإنسان ليحسب الأولويات بمعايير صحيحة، معايير إنسانية، أخلاقية، إيمانية، دينية، قيمية، فيلحظ أن هؤلاء هم أولى بكثير من المشاريع التي قد تستنفد فيها الأموال الكثيرة، وهي ذات طابع حضاري، أو جمالي، أو رمزي، أو… نحواً من ذلك، مثلاً البعض تحت عنوان بوابة، أو مدخل مدينة، عقد معين، ومبنى معين، وشكل معين، يكلف مبالغ هائلة جداً، مثل هذا المشروع في الوقت الذي قد فاضت فيه الأموال عن الضروريات، عن الأشياء الأساسية، عن مثل العناية بهؤلاء، هؤلاء المحتاجين جداً، البائسين جداً، المتضررين جداً، فالإنسان في العناية به في ضرورياته يمثل أولوية، قبل الأشياء الأخرى، الأشياء التي هي ذات طابع جمالي معين، أو ترفيهي معين، الضروريات الملحة لها أولوية، فالبطر بالنعمة، والتبذير، وما بالك إذا كانت المسألة مسألة فساد مالي، أو مكاسب شخصية، أو عبث بالمال، هذه كارثة، تعتبر كارثة.
((فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِكَ التَّافِهَ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ))
يعني: حتى لو كانت لديك اهتمامات معينة، بحسب الأولويات الكبيرة والخطيرة والمهمة، يبقى لبعض الأمور أهمية كبيرة جداً، ولا تعذر بتضييعك لها، لاعتبارك لها أمور بسيطة مقارنة بالأمور الأخرى، مثلاً: أمام التحديات والمخاطر الكبيرة، التي قد يرى فيها البعض أنها بالشكل الذي تأخذ منه كل اهتمامه، وكل عطائه، وكل جهده، وكل ما يقدمه، تبقى لبعض الأمور أهمية في كل الأحوال، مثل هذه المسألة، هذه مسألة إنسانية، وإيمانية، وأخلاقية.
((فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ))
لا تصرف اهتمامك عنهم، بحجة الانشغال بالأشياء الأخرى، احسبهم من ضمن أولوياتك، من ضمن ما تنشغل به وتعطيه من اهتمامك.
((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ))
لا تتعالى عليهم، وتعرض عنهم، وتتجاهلهم، تكبراً وازدراءً لهم، هم فئة مهمة من أبناء المجتمع، عليك تجاههم مسؤولية أمام الله “سبحانه وتعالى”، واهتمامك بهم جزءٌ من التزامك الإيماني والديني والأخلاقي، ومن ضمن مسؤولياتك الأساسية، ويشرفك، مما فيه شرفٌ لك، مما فيه ما يرفع قدرك، ويعلي منزلتك عند الله “سبحانه وتعالى” أولاً.
((وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ، مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ))
هناك من الفقراء، ومن الزمنى (من المصابين بأمراض مزمنة، أو إعاقات)، من ليس لديهم وساطة، ولا هناك من يتابع أمورهم، ويتوسط لهم، ويشفع لهم، ويعتني بأمرهم، ويلفت النظر إليهم، فإذا تركوا، حرموا، وكانوا أكثر الناس تضرراً ومعاناة، مثل هؤلاء تفقدهم أنت، اسعَ لأن تعرفهم، لا يقتصر اهتمامك على من لديهم وساطات، وشفعاء، ولديهم من يلفت النظر إليهم، بل احرص على أن يصل اهتمامك، ورعايتك، وعنايتك، حتى إلى أولئك الذين يعرض عنهم الناس، ويهملونهم، ولا يهتمون بهم، قد يحتقرونهم، وقد لا يركزون عليهم.
((فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ))
فرِّغ لهم من أعوانك من تثق به في أنه يخشى الله، وبالتالي عنده اهتمامٌ بالمسؤوليات التي يُكَلَّف بها، ينفذها بجد واهتمام؛ لأنه يستشعر المسؤولية أمام الله “سبحانه وتعالى”، ويحرص على أن يعمل ما يرضي الله “سبحانه وتعالى”، معيار الأهمية للأعمال عنده معيار مرضاة الله “سبحانه وتعالى”، العمل الذي يرضي الله “جلَّ شأنه” هو بالنسبة له عملٌ مهم؛ لأن البعض من الناس قد يحتقر بعض الأعمال، ولا يعطيها حقها من الاهتمام؛ لأنها ليست من الأعمال ذات الشهرة، ذات الأهمية، ذات المكان والمقام الاعتباري بين الناس، فهو يريد نوعاً من الأعمال التي يظهر فيها وكأنه شخصٌ مهمٌ وكبير، فركز في هذا الموضوع الإنساني، الأخلاقي، الإيماني، الحساس، على الاعتماد على من تثق به في أنه يخشى الله “سبحانه وتعالى” ويتقي الله، وعنده اهتمام بمثل هذه الأمور؛ لأنه يدرك قيمتها الإيمانية والأخلاقية، وموقعها ومنزلتها في الأعمال الصالحة، وفي القربة إلى الله “جلَّ شأنه”.
((مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ)): إنسان هو متواضع، تثق بتواضعه، ليس متكبراً، ولا مغروراً؛ ولذلك بقدر تواضعه سيكون قريباً من هؤلاء الناس المعانين، البائسين، الضعفاء، لا يأنف من البحث عنهم، من الوصول إليهم، من الاهتمام بهم، من الرعاية لهم، من العناية بأمرهم، بل يدرك قيمة ذلك، القيمة الإيمانية، والإنسانية، والأخلاقية، وفي القرب من الله “سبحانه وتعالى”.
والتواضع من أهم المواصفات التي لابدَّ منها للإنسان في موقع المسؤولية، في أي موقع من مواقع المسؤولية، البديل عن التواضع هو: الكبر، والغرور، والعجب، والتعالي، وهي كلها صفاتٌ مذمومة، وقبيحة، وتعتبر من المعاصي الكبيرة، ومن الانحرافات الشنيعة، ومما يدل على ابتعاد الإنسان عن الإيمان، وعن الاستقامة، ومنفره جداً، ومؤثرة سلباً على أداء المسؤولية.
من أسوأ الناس في أداء مسؤولياتهم، من أسوأ المسؤولين، المسؤولون المتكبرون، المتعالون، المغرورون، الذين يتعاملون مع الناس بتعالٍ وكبرياء وغطرسة، من أسوأ الناس، حتى الناس يمقتونهم، يكرهونهم، يستاؤون منهم، ينفرون منهم، يصعب التعامل معهم، يعسر التفاهم معهم، مشكلة، التواضع مسألة مهمة جداً، ((مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ))، ليؤدي مسؤوليته بإخلاص، وليصل إلى أي إنسانٍ من أبناء المجتمع من الذين يعانون هذه المعاناة دون ترفع، أو تكبر، أو تحرج من تحرج ذوي الكبر والتعالي.
((فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ))
ليتفقد أحوالهم بشكلٍ عام، على أساس من له مظلومية، من يعاني من الظروف الصعبة، يعني: أكثر من مسألة الرعاية المادية، رعاية أوسع، من له شكوى، فتشمل هذه الرعاية المادية، والرعاية الشاملة الأوسع.
((فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ تَلْقَاهُ))
اعمل فيهم، من رعايتك، من اهتمامك، من معالجتك لأوضاعهم، من اهتمامك بأمورهم، بما يكون عذراً لك يوم تلقى الله “سبحانه وتعالى”، فيسألك عنهم، لتكون قد بذلت جهدك، لا تلقى الله وأنت مفرِّطٌ، متساهلٌ، متهاونٌ، غافلٌ عن الاهتمام بهم، وعن العناية بشأنهم.
((فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ))
هؤلاء من الفقراء، وأهل البؤسى والزمنى: المرضى المعاقين، والمصابين بالأمراض المزمنة، والفقراء جداً، الذين لا يجدون من يتشفَّع لهم، وليس لهم وساطة، ولا يصل صوتهم، لا يصل صوتهم إليك، ولا إلى غيرك، هؤلاء هم أحوج إلى الإنصاف من غيرهم؛ فلذلك إذا لم يصل صوتهم إليك، فلتصل أنت باهتمامك ورعايتك إليهم، لتفقد أحوالهم من خلال ثقاتك، الذين تثق بهم، وتعتمد عليهم لأداء هذه المهام، التي هي مهام مقدَّسة، مهام إنسانية، وأخلاقية، وإيمانية، وضمن مسؤولياتك الأساسية.
((وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ))
ابذل جهدك ما بينك وبين الله “سبحانه وتعالى” أن تؤدِّي واجبك نحو الجميع، نحو كل الفئات، استشعر مسؤوليتك أمام الله في ذلك؛ لأن الله سائلك، ومحاسبك، ومجازيك، استشعر هذه؛ ولذلك فاحرص بشكلٍ عام تجاه كل الفئات في نطاق مسؤوليتك، أن تبذل جهدك في العناية بهم، والاهتمام بهم، وأداء مسؤولياتك نحوهم.
((وَتَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ))
اليتامى، واليتامى من الفئات التي تحتاج إلى الرعاية، والعناية، والاهتمام، وفي القرآن الكريم تركيز كبير على مسألة اليتامى، والرعاية لهم، والإكرام لهم، والاهتمام بهم، فهم بحاجة إلى الرعاية والاهتمام الشامل، على المستوى المادي من هم فقراء، الرعاية في تربيتهم، تنشئتهم، الحفاظ على حقوقهم… إلى غير ذلك.
((وَذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ))
((ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ)): المتقدِّمون في العمر، من وصلوا إلى الشيخوخة، وأصبحوا عاجزين عن العمل والكسب، ويحتاجون إلى العناية بهم، هذه حقوق الإنسان الحقيقية في عهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” لمالكٍ الأشتر، في القرآن الكريم في الإسلام أرقى ما قدِّم لحقوق الإنسان، لرعاية الإنسان، للاهتمام بالإنسان.
((مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ، وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ))
((لَا حِيلَةَ لَهُ)): ليس لديه تدبير وخبرة في أمور الاكتساب، ولا قدرة له، ((وَلَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ))، فبادر أنت بآلياتك العملية، بمن تعتمد عليهم وتثق بهم لأداء هذه المسؤولية، فيما ينبغي أن يكون عليه الواقع العام، أن تكون هناك جهات محددة تناط بها هذه المسؤوليات، تكلف بأداء هذه المسؤوليات، مع التقييم لأدائها، ومراقبة أدائها، والاهتمام بذلك.
((وَذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ))
الاهتمام بكل هذه الفئات، والمتابعة الجادة، والنهوض بهذه المسؤولية على الوجه المطلوب، ثقيلٌ على الولاة؛ من حيث طبيعة الإنسان، وغرائزه، وميله إلى الدعة؛ أمَّا من يتحلى بالإيمان، من يمتلك الوعي الكافي لأهمية مثل هذه الأعمال، وقيمتها الإيمانية والإنسانية والأخلاقية، فهو سيؤدِّي وإن كان هناك أحياناً صعوبات كثيرة تواجه الإنسان، لكن سيؤدي مثل هذه المسؤوليات برحابة صدر، بتقربٍ إلى الله “سبحانه وتعالى”، بدافعٍ إيمانيٍ، وأخلاقيٍ، وإنساني؛ ولـــذلك قـــال:
((وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ))
يعني: بهذا الاعتبار: باعتبار رغبات النفوس في الدعة، والراحة، والميل إلى المصالح الشخصية… وغير ذلك.
لكن من يتجه وينطلق من منطلقات إيمانية، وتوجهٍ إيماني، يعرف قيمة مثل هذه الأمور، وأهميتها، ونتائجها العظيمة، ويستعين بالله، ويعتمد على الله، فيحظى من الله “سبحانه وتعالى” بالعون والتيسير؛ ولــــــــذلك قال أمير المؤمنين “عليه السلام”:
((وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ، فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ))
الله “سبحانه وتعالى” وعد في القرآن الكريم بالتيسير: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}[الليل: الآية7]، يمنحك الله التيسير في أمورك، وإذا واجهت عوائق معينة، أو صعوبات معينة، مع استعانتك بالله، وتوطينك نفسك على الصبر، تجتاز تلك المراحل الصعبة، تلك العقبات والعوائق الكبيرة، تجتازها في نهاية المطاف، بمعونة الله وبتوفيقه “سبحانه وتعالى”.
الإنسان إذا طلب العاقبة عند الله “سبحانه وتعالى”، يريد رضوان الله، يريد الجنة، يريد أن يحظى بمحبة الله، بتوفيق الله، وأن يؤمِّن نفسه من عذاب الله، أن يسعى لما فيه السلامة من عذاب الله “سبحانه وتعالى”، وكان واثقاً بصدق وعد الله؛ لأن الله وعد: وعد الصابرين، وعد المتقين، وعد المحسنين بخير الجزاء، وبأحسن الجزاء في الدنيا والآخرة، فمن يثق بوعد الله؛ سينطلق وهو يمتلك الحافز الكبير، والدافع الكبير، ويعرف قيمة هذه الأعمال في عواقبها، وخواتمها، ومآلاتها، وما يثيبه الله عليها، فيتجه بدافعٍ كبير، وتحملٍ كبير، وصبرٍ على الصعوبات والعوائق.
((وَاجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً، تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ، وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً، فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ، وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ؛ حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ” صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ»)).
((اجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً))
في إطار عمل الإنسان، عمل المسؤول في أي موقع من مواقع المسؤولية، ينظِّم وقته في اهتماماته بمسؤولياته ومتابعاته لأعماله، ثم يحدد وقتاً معيناً، وقتاً مفتوحاً، وقتاً عاماً، يجلس فيه، ويستقبل بشكلٍ مفتوح، بشكلٍ عام، من لديهم شكاوى، من يريدون الوصول إليه بموضوعٍ معين، بقضايا معينة؛ حتى يتمكنون من ذلك، وهذه مسألة هامة، إذا عمل بها كل المسؤولين، فخصصوا وقتاً مفتوحاً، وقتاً عاماً من أوقاتهم، يستطيعون إمَّا بحسب ظروفهم العملية، وبحسب الأعمال نفسها، والمهام العملية، البعض قد يستطيع بأكثر من يوم مثلاً في الأسبوع، قد يستطيع أياماً معدودة في الأسبوع، والبعض في الأسبوع كذلك يوماً، ليكون يوماً مفتوحاً، يستقبل فيه ذوي الحاجات، من لديه شكوى، من لديه تظلم، من لديه قضايا معينة… بشكلٍ عام، ويهيئ الظروف فيها لهم (لاستقبالهم) بطريقة ميسَّرة، وفي أجواء مبسَّطة وعادية، بكل تواضع، لا تكون أجواءً مخيفة، مهيبة، مرعبة؛ حتى يتمكن البسطاء من الناس، ذوي الحاجة من الناس، الضعفاء من الناس، من الوصول، سواءً كان لديهم تظلمات معينة، أو شكاوى معينة، أو قضايا معينة، أو مطالب معينة، هذه لها أهميتها الكبيرة جداً؛ ولـــــذلك يقول:
((فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ))
تتواضع لله بتواضعك لعباده، أنت عبدٌ لله “سبحانه وتعالى”، ووظيفتك التي تؤديها في موقعك في المسؤولية، هي في نطاق وإطار عبوديتك، أنت تعمل كعبد لله “سبحانه وتعالى” في خدمة عباده، في خدمة عباده، فتؤدِّي هذا الدور على هذا الأساس.
((وَتُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَأَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَشُرَطِكَ))
يعنـــي: لا تكون ترتيباتك الأمنية بالشكل الذي يرعبهم، يخيفهم، يزعجهم، يؤثِّر عليهم، لا يهيِّئ لهم الظروف الاعتيادية البسيطة التي يتمكنون فيها من تقديم ما يريدون تقديمه، أو إيصال ما يريدون إيصاله من قضاياهم، ومواضيعهم، وشكاواهم، أو تظلماتهم، هيِّئ ظروفاً عادية، بسيطة، غير معقَّدة، غير مخيفة، غير مرهبة، جواً عادياً بسيطاً، يستطيعون فيه أن يقدِّموا ما يريدون تقديمه براحة بال، من دون قلق، من دون ازعاج، من دون إخافة، من دون ضغط، هيِّئ جواً يبعث على الطمأنينة، والارتياح النفسي، والهدوء، وتقديم ما يريدون تقديمه، أو أن يقولوه لك.
((حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ))
يكلمك باطمئنان، غير مضطرب في كلامه، ومرتبك، وقلق؛ لأنه محاط بعدد كبير من الحراس، كلٌّ ينظر إليه بعينٍ مفتوحة، وعبوس، وطريقة مخيفة، اعمل جواً مطمئناً، متواضعاً، قريباً من الناس.
((فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ” صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ: «لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِعٍ»))
الأمة التي لا يؤخذ للضعيف حقه من القوي، هي أمة مفلسة أخلاقياً، خسرت إنسانيتها، خسرت قيمتها الأخلاقية، أمة لا تبني واقعها على أساس العدل والحق، أمة متوحشة، الواقع فيها هو واقع الغابة، واقع الحيوانات المفترسة، القوي يأكل الضعيف.
أمَّا الأمة المقدَّسة، الأمة الطاهرة، الصالحة، الأمة المستقيمة، الأمة التي تلتزم وتبني واقعها على أساس الأخلاق والقيم، فهي الأمة التي يسودها العدل والإنصاف، ويسودها بشكلٍ عام، فيؤخذ للضعيف حقه من القوي براحة بال، براحة بال؛ لأن الناس يقفون مع الحق حيث هو، ومع صاحب الحق أياً كان، من غير تمييز على أي اعتبار، أو أي تصنيف.
((ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعِيَّ))
يعنـي: في حديثك معهم، في سماعك لهم، في تعاملك معهم، في ذلك اللقاء المفتوح، تَحَمَّل منهم ما قد يبدر منهم من زلةٍ في الكلام، أو إساءة، أو… البعض- مثلاً- قد يقدِّم قضيته، أو شكواه، وهو منفعل، وقد يزيد في كلامه، أو ينقص، أو يصدر منه إساءة، أو طريقته في التعامل والحديث مزعجة، وغير مؤدبة، تحمل ذلك، في ذلك اللقاء المفتوح تحمل.
وكذلك ((الْعِيَّ))، بعضهم لا يمتلك القدرة التعبيرية لتوضيح قضيته، أو مطلبه، بالشكل السليم والسريع والسهل، يتعبك وأنت تسمع له حتى تفهم منه ماذا يريد بالتحديد، تحمل، اصبر، بعضهم قد يكون لديهم مطالب غير واقعية، لا تنفعل عليه، لا تقابله بطريقة مسيئة، تحمل ذلك.
((وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالْأَنَفَ))
((نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ)): ضيق الصدر، ضيق النفس، لا تتعامل معهم وأنت في حالة من التوتر، والغضب، والانفعال، والاستياء، والانزعاج، ثم تتعامل وتتصرف بناءً على ذلك، في حديثك معهم، في تعاملك معهم، وفي الواقع كذلك، يعني: هيِّئ التعامل معهم بطريقة ميسَّرة، وبطريقة غير ضيِّقة، في سوء الخلق، أو في طبيعة الإجراءات والترتيبات وأسلوبها.
((وَالأَنَفَ))، ((وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالْأَنَفَ)): كذلك لا تتعامل معهم بتعالٍ، واستكبارٍ، وأنفةٍ منهم، تعامل معهم بتواضع، اصغِ إليهم، تفهم ما يقولونه، واصبر على ذلك، إذا كان هناك أسلوب مزعج، أو طريقة مزعجة، كن صبوراً، أنت في موقع مسؤولية.
((وَنَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَالْأَنَفَ، يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ، وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ))
لهذا الصبر، لهذا التحمل في أداء المسؤولية، وأنت تسعى لخدمة الناس، والاهتمام بأمورهم، وأنت تصبر عليهم، حتى على ما يستفزك منهم، ويزعجك ويسيء إليك، لهذا عاقبته الحسنة، أنت تحظى برحمة الله “سبحانه وتعالى”، بالثواب العظيم، والأجر الكبير، والرعاية الواسعة، والرعاية الواسعة، لهذا فضله، العناية بأمر الناس، مع الصبر، والتحمل، وسعة الصدر، والاستعانة بالله في ذلك، عملٌ عظيم، عملٌ مهمٌ جداً ومقدَّس، وله أجره الكبير، وفضله العظيم، وله نتائجه الطيبة، وثمرته العظيمة في نفس الإنسان، وفي حياته، وفيما يكتبه الله له في الدنيا والآخرة.
((وَيُوجِبْ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ، وَأَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً))
ما تعطيه لهم، أو لغيرهم ممن تعطيه، ممن يستحق أن تعطيه، ما تعطيه اعطه هنيئاً، بطريقةٍ سليمة من المنغصات، لا يكون بطريقة فيها منّ، أو فيها أذى، أو فيها إزعاج، أو فيها تضجر، أو فيها صعوبات كبيرة أيضاً في إيصاله إليهم، أو إخراجه لهم، لا يخرج إلَّا بشق الأنفس، اعطه بطريقةٍ هنيئة.
((وَامْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَإِعْذَارٍ))
امنع في الظروف التي تقتضي المنع، حيث ليس هناك- مثلاً- حاجة، أو ضرورة، أو مبرر لأن تعطي، أو لا تستطيع، طلب منك ما لا تجد، ما لا يتوفر، ما لا يمكنك تقديمه له، فيكون مع ذلك الإعذار والإجمال، يعني: طريقة مؤدبة محترمة، من دون إساءة، من دون جرحٍ للمشاعر، من دون كلامٍ قاسٍ.
((ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا، مِنْهَا))
من ضمن مسؤولياتك، ومن ضمن الأمور التي أنت معنيٌ مباشرةً بالاهتمام بها، ولا يكفي أن تحيلها على أعوانك، ومن في مكتبك، لابدَّ أن تباشرها أنت.
((مِنْهَا: إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ))
أن تتابع أنت، وأن تجيب على عمالك، على المسؤولين الذين تتابعهم، وأنت مسؤولٌ عنهم، وهم في نطاق مسؤوليتك، أن تتابع معهم مباشرةً، وتجيبهم أنت بشكلٍ مباشر، ((بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ))؛ لأن بعض المواضيع، بعض القضايا هامة، قد يعيا عنها منهم من كتابك، من أعوانك، منهم يقومون بدورٍ مساعدٍ لك، قد لا يتمكنون هم وأن يؤدوا هذا الدور بالنيابة عنك، مواضيع مهمة، مواضيع حساسة، قضايا معينة، تحتاج إلى الاهتمام المباشر، والمتابعة المباشرة، فلا تبنِ على إيكال كل شيءٍ من الأمور إليهم.
((وَمِنْهَا: إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ يَوْمَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ))
كذلك في حاجات الناس، ومطالبهم، وأمورهم، هناك منها ما ((تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ))، إمَّا يماطلون فيه، أو لا يتفاعلون معه، أو لا يستوعبون أهميته، ويتطلب هذا منك الاهتمام المباشر؛ لــذلك تفقد الأمور والمواضيع، وباشر ما ينبغي أن تباشره أنت.
((وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ))
في عملك، في طريقتك في العمل، وأسلوبك العملي، احرص على الإنجاز اليومي، لكل يومٍ ما فيه من العمل، نظَّم وقتك بشكلٍ جيد، واستثمر وقتك بشكلٍ جيد، واحذر من إضاعة الوقت، من أكبر المشاكل في الأعمال الإدارية والمسؤوليات هي: إضاعة الوقت، وعدم تنظيم الوقت، وبالذات أنَّ البعض من الناس روتينهم في الحياة، وأسلوبهم وطريقتهم في الحياة، مما يساعد على ضياع كثيرٍ من الوقت المهم، الذي يمكن استثماره لإنجاز الأعمال بشكلٍ جيد.
مثــــلاً: عندنا في اليمن، البعض من الناس قد يضيع وقته ليلاً وهو يمضغ القات ويسهر، من دون ضرورةٍ للسهر، من دون ضرورةٍ للسهر، وفي النهار ينام إلى وقتٍ متأخر، فلا يتحرك للدوام إلَّا قرب منتصف النهار، ثم يكون دوامه لساعتين مثلاً، وقد أضاع وقتاً طويلاً، هذا تضييع للوقت، وإضاعة للمسؤولية، وتفريط في أداء المسؤولية، وذنب، ذنبٌ على الإنسان، عندما يفرِّط في أداء مسؤولياته، ويضيع الكثير من وقته خارج نطاق اهتمامه بمسؤولياته، التي هو محملٌ بها، ومسؤولٌ عنها أمام الله “سبحانه وتعالى”، وتجاه عباد الله.
فعلى الإنسان أن ينظم وقته بشكلٍ جيد، ويسعى للإنجاز اليومي، أن ينجز في كل يومٍ أعماله الأساسية والمهمة، إذا طرأ طارئٌ له أولوية، أو له أهمية، أخذ ذلك بعين الاعتبار، وإلا فليحرص على الإنجاز اليومي.
((وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ، فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ))
أنت قد تؤجل بعض الأعمال إلى اليوم الآخر، فيأتي في اليوم الآخر شواغل أخرى إضافية، أو مشاكل إضافية، فيكون التأخير كذلك من تأخير إلى تأخير، ثم تزدحم فيما بعد الأمور، والمشاكل، والقضايا، ولا تدرك البعض منها، ولا تنجز الكثير منها، وتؤخر الكثير من الأمور، والبعض من الأمور في تأخيرها خطر، أو خلل، أو تضييع لحقوق، أو سبب لمآسٍ، أو سبب لحدوث مشاكل، التأخير خطير، فمسألة الإنجاز مسألة مهمة جداً.
((وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ))
عندما تنظم وقتك، تنظم برنامجك العملي ووقتك، كيف تؤدي مسؤولياتك بشكلٍ منظم.
((وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ)): اختر أحسن الأوقات للقربة إلى الله، والعبادة والرجوع إلى الله “سبحانه وتعالى”؛ لأنك بحاجة إلى الله، بحاجة إلى توفيقه، إلى رعايته، إلى معونته، إلى هدايته، وأنت بحاجة إلى القربة إلى الله “سبحانه وتعالى” بما يقربك إلى الله “جلَّ شأنه”، فمع القيام بالمسؤولية بدافعٍ إيماني، وإخلاصٍ لله “سبحانه وتعالى”، سيكون ذلك كله عبادة، وقربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، ولكنك تحتاج إضافةً إلى ذلك إلى الاستفادة من العبادة الروحية، تحتاج إلى العناية بالذكر لله “سبحانه وتعالى”، والتسبيح، والصلاة، وتلاوة القرآن، والاهتمام بالعبادة الروحية، التي لها أثرها الكبير عليك في نفسك، ومشاعرك، ووجدانك، وفي تزكية نفسك.
((وَاجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ، وَأَجْزَلَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ، إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ، وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ))
اختر من أهم الأوقات التي تستفيد منها مثلاً خارج نطاق العمل؛ لأنك تستطيع أن تخصص مثلاً أوقات العمل الاعتيادية؛ أمَّا الأشياء الطارئة، والأشياء المهمة جداً، فلها اعتبارها وأهميتها في كل الأوقات، ليلاً، أو نهاراً، ولكن على مستوى المتابعة العملية الاعتيادية والدوام، ثم خارج هذا، تستطيع مثلاً: أوقات الصلوات، مثلاً: في الثلث الأخير من الليل، مثلاً: ما بعد صلاة الفجر إلى وقت وجبة الفطور، وتكون مبكرة، لا تكون في وسط النهار، وجبة الإفطار، أو من يؤخر صلاة الفجر، فالمبادرة في ذلك، يستطيع الإنسان أن يستفيد من تلك الأوقات في الذكر لله تعالى، والتقرب إلى الله “سبحانه وتعالى”، والالتجاء إلى الله.
((وَإِنْ كَانَتْ))، يعني: كل أعمالك في أدائك لمسؤولياتك.
((كُلُّهَا لِلَّهِ، إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ)): إذا كنت مخلصاً لله، تتقرب إلى الله بأدائك للمسؤولية تجاه عباده.
((وَسَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ)): لا يكون فيها ما يضر بالرعية، الأداء الصحيح، الأداء السليم، الأداء الذي يرضي الله “سبحانه وتعالى”، العمل الذي هو وفق توجيهات الله “جلَّ شأنه”، يكون قربةً إلى الله وعملاً صالحاً، لا يكون فيه ضرر على الرعية، على الناس.
((وَلْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ لِلَّهِ بِهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً))
ليكن من أول ما تهتم به، وتخلص لله فيه، تؤديه بإخلاص وجد واهتمام: إقامة الفرائض، العناية بالصلوات، وما فرضه الله عليك، مثل: الصلاة، والصوم… وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها، لا تفرِّط فيها، بحجة انشغالك بمسؤولياتك وأعمالك، فلم تعد تهتم بالصلاة، وكأن المسألة من شدة اهتمامك بمسؤولياتك وأعمالك، ليس لك مبررٌ في ذلك، لا تحتاج أن تكون اهتماماتك بأداء المسؤولية على حساب اهتمامك بفرائض الله “سبحانه وتعالى”.
((إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً، فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَنَهَارِكَ، وَوَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا، غَيْرَ مَثْلُومٍ، وَلَا مَنْقُوصٍ))
أده كما شرعه الله، والله “سبحانه وتعالى” هو في تشريعه “جلَّ شأنه” الرحيم بعباده، شرع ما يناسب مختلف الأحوال: حالة السفر، حالة الحَضَر، حالة المرض، حالة العافية، لمختلف الظروف هناك في شرع الله “سبحانه وتعالى” ما يلائم ذلك، لكن أنت أدِ كما شرع الله من دون نقص.
((بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ))
ابذل جهدك، لا تكن مهملاً لذلك بدافع الرحمة لنفسك، أنك تريد الراحة لنفسك، لا تريد أن تتعبها.
((وَإِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ))
كنت إماماً للصلاة في مسجد، أو في موطن من المواطن.
((فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَلَا مُضَيِّعاً))
((فَلَا تَكُونَنَّ)) في صلاتك وأنت تصلي بالناس ((مُنَفِّراً)) بالتطويل الزائد في الصلاة، تطول في القراءة، وتتأخر في أدائك للصلاة ببطءٍ شديد، وتطويلٍ كبير، ((وَلَا مُضَيِّعاً)): ولا تسارع في اختصار الصلاة حتى تقصر في أدائها ولا تؤديها كاملة، حتى يكون أداؤك لها منقوصاً، لم تكمل أركانها، وأذكارها، وهيأتها، بالذات الهيئات الأساسية فيها، في قيامها، وركوعها، وسجودها، وقعودها، والاعتدالات من الركوع والسجود… وغير ذلك، تسرع فتقصر وتضيع، تضيِّع بالنقص، النقص في شيءٍ من أركانها.
((فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ))
فراعِ ظروف الناس حتى في الصلاة، لا تطول في الصلاة، والصلاة وهي من أعظم أركان الإسلام، ومن أعظم القرب إلى الله، لكن لاحظ كيف رحمة الله بعباده، لا يريد منك أن تطوّل حتى في الصلاة، بما يسبب المشقة والعسر على البعض ممن يصلون خلفك، البعض منهم من ذوي الحاجة، أو من ذوي العلة.
من ذوي العلة: مريض، يعاني من وضع صحي معين، يشق عليه التطويل والتأخير في الصلاة.
والبعض من ذوي الحاجة: ممن لهم حاجة ملحة، هو مستعجل لأدائها، أو للتحرك من أجلها في ظروف حياته.
فلا تتأخر بهم حتى تنفرهم، فتكون منفراً للناس؛ بسبب تطويلك وتأخيرك.
((وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ” صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ” حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ))
رسول “صلوات الله عليه وعلى آله” أرسل الإمام عليًّا “عليه السلام” إلى اليمن، وأسلم على يده أهل اليمن، أرسله لثلاث مرات إلى اليمن، واحدة منها بقي لأشهر عديدة في اليمن، فسأل رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله” كيف يصلي بالناس، يعني: هل يطول، أم يختصر، أم كيف؟ ((فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ))، وهذا مقياس مهم، مقياس مهم لكل إمامٍ للصلاة، ولكل من يصلي بالناس، ممن يأتمّون به، أو ممن هو حتى في موقع مسؤولية: أن يصلي بهم كصلاة أضعفهم، يأخذ بعين الاعتبار ما إذا كان من الحاضرين من هو مريض، أو متعب، أو يشق عليه التأخير، أو ضعيفٌ؛ لأنه طاعنٌ في السن… أو غير ذلك، البعض ممن يصلي بالناس يبقى متأخراً حتى يتساقط البعض من المؤتمين، يسقطون، إمَّا مرضى، أو طاعنين في السن… أو غير ذلك.
((فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً»))
وهذه قاعدة عامة: التعامل على أساس الرحمة، مثلما قال في بداية الحديث: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ))، الرحمة أساس في التعامل مع الناس، أساس في كيفية التحرك بهم، أساس في كيفية أداء المسؤولية نحوهم، أساسٌ مهم، وأساسٌ عظيمٌ ومقدس.
أسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛