[03/ مارس/2021]
صنعاء-سبأ:مركز البحوث والمعلومات: خالد الحداء
قدم الإنسان اليمني إلى العالم منذ ما قبل التاريخ حضارته العريقة والفريدة والمتميزة عن غيرها من حضارات الشعوب، وخلال آلاف السنيين استطاع الإنسان اليمني أن يُنجز حضارة عظيمة مازالت شواهد بنيانها إلى يومنا هذا، وسجلت كتب التاريخ أن الفضل في معرفة العالم بقهوة البن يعود في الأصل إلى اليمن “أرض وإنسان”، ولن يكون من المبالغ القول أن البن اليمني سجل خلال قرون طويلة من الزمن حضوراً بارزاً لدى محبي وعشاق القهوة على مستوى العالم.
وأمام هذه الحقيقة كان من البديهي ارتباط البن كشجرة وكمحصول، بالهوية والحضارة اليمنية الضاربة في القدم، حيث عُرفت اليمن منذ القدم بأشهر أنواع البن، وتميز بجودته العالية وشهرته الواسعة على مستوى العالم، وخلال مراحل زمنية سابقة اعتبر تصدير البن مصدراً رئيساً لجلب العملات الأجنبية لكونه منتج مطلوب عالمياً، وساهم البن تاريخياً “حسب العديد من الدراسات” إلى جانب عدد من المحاصيل الزراعية في تعريف العالم بتميز الحضارة اليمنية ورقيها.
وكما هو متعارف، فإن المواد الزراعية عموماً تصنف ضمن أهم الموارد الاقتصادية في قياس قوة ومكانة الدولة ضمن ما يسمى بمناهج الجغرافيا السياسية، واليمن من البلدان الزراعية تاريخيا واعتمدت في نهوضها الحضاري منذ آلاف السنين على الزراعة، وتصنف المقومات الاقتصادية عموماً والزراعة تحديداً، من ضمن الاسس التي يتم على ضوئها تقييم وزن الدول السياسي، لما لها من انعكاسات على حاضر ومستقبل الدول وعلاقاتها بالعالم الخارجي، إضافة إلى استقلالية قرارها وقدرتها على مواجهة الأزمات والأعداء خلال الحروب.
وفي إطار تلك الأهمية للزراعة كان لا بد من إعادة الاعتبار للبن اليمني، وهو ما كان من خلال تكثيف الجهود الحكومية والمجتمعية في سبيل تحريك المياه الراكدة تجاه الزراعة عموماً والبن خصوصاً، وفي هذا السياق كان قرار حظر استيراد البن وقشوره وغلاته ،الذي اصدر بقرار مشترك من وزارتي الصناعة والتجارة والزراعة والري، وجاء القرار في اطار المساعي الحكومية الهادفة إلى حماية زراعة وتجارة محصول البن، وتلا ذلك قرار أخر من وزارة الزراعة اعتبر تاريخ الثالث من مارس من كل عام يوماً للاحتفال بالبن.
وكان من الواضح أن تلك القرارات وحسب العديد من المختصين، اعتبرت بمثابة البداية الصحيحة في سبيل دعم المنتج الوطني لمواجهة المنتج الخارجي الذي يغزو السوق المحلي منذ سنوات طويلة، لا سيما مع تأكيد وزارة الزراعة العمل على تنفيذ جملة من الخطط والبرامج الهادفة لتطوير وتحسين زراعة وإنتاجية البن كمحصول ذات مردود اقتصادي ونقدي مهم، حيث تبنت الوزارة خلال موسم 2020م إنتاج مليون شتلة بن بهدف تدشينها في الموسم الزراعي الحالي، يشار إلى أن تلك الجهود قد تزامنت مع تزايد حجم الطلب على البن اليمني في الأسواق العالمية.
وفي إطار الجهود المجتمعية التكاملية مع الجهود الحكومية، سجلت عدد من منظمات المجتمع المدني حضوراً متقدماً في دعم وتشجيع المزارعين على تطوير وتحسين زراعة البن كونه محصول تاريخي مرتبط بالهوية اليمنية الجامعة، إضافة إلى العمل على استصدار القوانين والقرارات الهادفة إلى تطوير زراعة البن وتعزيز المكانة الوطنية للبن والعمل على استعادة المكانة التاريخية لمنتج البن اليمني، بالإضافة إلى تسليط الضوء على القيمة الاقتصادية للبن على اعتباره من المحاصيل النقدية التي تسهم في دعم الاقتصاد اليمني بالعملة الصعبة، ولاعتماد مئات الاف من اليمنيين على محصوله لتحسين دخلهم المادي.
وفي هذا السياق لا بد أن نشير أن فكرة أن يكون هناك يوماً وطنياً للاحتفال بالبن، وهو ما تم إقراره واعتماده رسمياً في الثالث من مارس من كل عام، قد جاء استجابة للجهود الحثيثة التي قام بها مجموعة من الناشطين والساعية إلى تحشيد الجهود في سبيل التأكيد على أهمية زراعة شجرة البن على نطاق واسع، ومع استمرار تلك الجهود المجتمعية الحميدة تبلورت فكرة أن يكون هناك يوم “عيد وطني” لشجرة البن “عيد موكا” تيمنا بالشهرة الواسعة للقهوة اليمنية التي عُرفت عالميا بـ موكا كوفي ” Caffe Mocha”، يشار إلى أن التسمية ارتبطت بمدينة المخاء اليمنية الساحلية القريب من باب المندب، لكونه ميناء التصدير الرئيسي لمحصول البن خلال الفترة ما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر الميلادي، ويرجح العديد من الباحثين أن قهوة الموكا “الموكاتشينو” قد أخذت الاسم من ميناء المخاء.
وخلال القرون الماضية، اعتبر البن اليمني في المرتبة الاولى عالمياً في مقياس الجودة، لكون البيئة الزراعية في المرتفعات الجبلية الغربية والوسطى والجنوبية، وفي المدرجات الجبلية، الممتدة من اقصى شمال اليمن بمديرة رازح إلى جبال يافع جنوب اليمن، مناسبة أكثر من غيرها لزراعة شجرة البن، وحسب المختصين ،فإن الظروف المناخية والبيئة المتنوعة التي تزرع فيها شجرة البن ساهمت في تحسين جودة المحاصيل، وتشير أغلب الدراسات إلى أن التوسع الكبير في زراعة البن امتد منذ القرن الـ 15 الميلادي وحتى القرن الـ 19، وكان القرن الـ 17 بمثابة العصر الذهبي لتجارة البن “مع بداية ظهور الاستعمار الأوروبي للعالم” خاصة بعد أن عُرف البن لدى التجار والشركات في أوروبا ، من خلال البحارة البرتغاليين الذين تعرفوا على قهوة البن بعد أن رست سفنهم على السواحل الغربية لليمن.
وفي هذا السياق تشير الباحثة اليمنية “أروى الخطابي” إلى أن “العثمانيين عندما تمكنوا من طرد البرتغاليين من سواحل البحر الأحمر في عام 1538 ، دشَّن عهدا جديدا من التجارة عبر ميناء المخاء، وهو الاسم الذي تحول إلى ماركة عالمية (COFFEE MOCKA) كما ذكرنا سابقاً، وفي سبيل تعزيز مكاسبهم سعى العثمانيين إلى فرض الضرائب على البضائع في السفن التجارية الداخلة للبحر الأحمر من خلال اجبارها على التوقف في ميناء المخاء، ويُعتقد بان هكذا اجراء ساهم في تعريف العالم بالبن كسلعة يمنية يمكن تصديرها إلى العالم الخارجي، وتشير عدد من الدراسات إلى أن شركة هولندية قامت بتصدير البن إلى العالم بعد انشائها مصنعا لذلك في مدينة المخاء مع بداية القرن الثامن عشر الميلادي، وبعد سنوات قامت شركة فرنسية بإنشاء مصنع بغرض التصدير، ومع مرور الوقت تصاعد إنتاج البن مع تزايد التنافس بين مختلف الشركات الاوروبية “الهولندية والبريطانية والفرنسية” على البن اليمني حتى القرن الـ18الميلادي، وساهم هذا التنافس في تسارع حركة الملاحة والتجارة الدولية ما بين الموانئ في العالم وميناء المخاء.
ولكن المتغيرات التي حدثت خلال القرنين الـ 19 و 20 فيما يخص زراعة وتجارة البن على المستوى العالمي انعكس سلباً على البن اليمني، لا سيما مع نقل فكرة زراعة شجرة البن إلى بلدان أخرى نتيجة زيادة الطلب على البن عالمياً، وهو ما لم يستطع أن يلبيه الإنتاج اليمني وجرى نقل واستنبات شجرة البن في “العالم الجديد” في أمريكا الجنوبية من قبل شركات القهوة الأوروبية في سبيل مواكبة زيادة الطلب على منتوج القهوة.
تلك المتغيرات وغيرها ساهمت في انحسار الاهتمام بزراعة البن داخل اليمن مع مرور الوقت، وتشير الاحصائيات إلى أن التراجع شمل “المساحات المزروعة وكميات الإنتاج والأيادي العاملة”، وتراجع التصدير لمحصول البن إلى ما دون 20 ألف طن بعد أن كان يقارب 55 ألف طن سنويا خلال الثلث الأخير من القرن الـ 20، وتقدر المساحة الزراعية المخصصة للبن حالياً في اليمن، بنحو 38 ألف هكتار وبعدد يقارب 60 مليون شجرة مزروعة.
يشار إلى الإنتاج العالمي من البن بلغ في موسم2020، نحو 10ملايين طن. وتعتبر البرازيل أكبر دولة منتجة للبن في العالم، بنحو 2.59 مليون طن، تليها فيتنام بنحو 1.65 مليون طن، فيما ناهزت صادرات البن العالمية نحو 20 مليار دولار من سوق تقدر قيمتها بنحو 27 مليار دولار، وأمام لغة الارقام هذه التي تشير إلى ضخامة سوق تجارة البن دولياً، لا بد من العمل على تحسين ترتيب موقع اليمن في حجم التجارة الدولية لسلعة القهوة، وهو ما سوف ينعكس إيجاباً على الوضع الاقتصادي إجمالاً، بما فيه الاقتصادات المحلية في مناطق زراعة البن، بالإضافة إلى خلق آلاف من فرص العمل الجديدة المباشر وغير المباشر في زراعة وإنتاج وتصدير محصول البن.
يبقى القول، أن هذه الحقائق وغيرها تتطلب أن تتظافر الجهود الحكومية والمجتمعية في سبيل الخروج باستراتيجية وطنية شاملة للنهوض بزراعة البن الذي يصنف كمحصول نقدي يساهم في تحقيق الارباح الوفيرة وبالعملة الصعبة ويشكل دعماً للاقتصاد في البلد.